بعد استقلاله عام 1943، كان لبنان نموذجاً لدولة القانون والمؤسسات في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمتعت العاصمة بيروت بمكانة خاصة كمركز ثقافي وتجاري، وتحول البلد إلى ملاذ لقادة الرأي والفكر ومن يبحثون عن فسحة للحرية والديمقراطية، إلا أن الوضع انقلب خلال العقود القليلة الماضية مع تصاعد الأزمات الداخلية والخارجية، ومعها بات ساحة خصبة لانتشار الميليشيات والبؤر الأمنية، الأمر الذي حوله إلى مأوى للهاربين من العدالة من مختلف دول المنطقة.
مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 وتوقيع اتفاق الطائف، كان من المفترض أن يبدأ لبنان مرحلة جديدة من الاستقرار وإعادة بناء مؤسسات الدولة، لكن الصراع السياسي والطائفي والتدخلات الإقليمية، حال دون تحقيق هذا الهدف، ما أرسى بؤراً أمنية في المخيمات وكذلك تزايد نفوذ المجموعات المسلحة في البلاد، وعلى رأسها “حزب الله”، الذي شكل قوة عسكرية وأمنية موازية للدولة، وفرض سيطرته على العديد من المناطق، مما جعل من الصعب على السلطات ممارسة دورها من دون الاصطدام بهذا النفوذ.
وأدى تراجع هيبة الدولة وتراجع الثقة في القضاء، إلى تشجيع الهاربين من العدالة في دولهم على اللجوء إلى لبنان والاحتماء بواقعه القانوني المتفلت.
المخيمات الفلسطينية
منذ قدوم اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان بعد النكبة عام 1948، تشكلت مخيمات في مختلف أنحاء البلاد، وعلى رغم أن هذه المخيمات كانت في البداية أماكن إيواء للنازحين، إلا أنها تحولت لاحقاً إلى مناطق ذات خصوصية أمنية، يصعب على السلطات اللبنانية دخولها أو فرض القانون فيها.
بعض هذه المخيمات اليوم أصبح ملاذاً آمناً لعناصر مطلوبة، سواء من الداخل اللبناني أو من مناطق أخرى في الشرق الأوسط، وعلى رغم أن السلطات اللبنانية على علم بهذه الأخطار، إلا أن التوازنات السياسية والطائفية حالت دون اتخاذ إجراءات حازمة لحل هذه المشكلة، فأصبحت المخيمات مرتعاً لعصابات التهريب والأسلحة، وأحياناً مكاناً لتدريب الإرهابيين، مما يشكل خطراً ليس فقط على لبنان، بل على المنطقة بأسرها.
ومع تزايد الانفلات الأمني وانعدام المحاسبة، بات لبنان وجهة مفضلة للهاربين من العدالة في دولهم، بخاصة في ظل غياب التعاون الأمني بين بعض الدول والسلطات اللبنانية والذي يتطلب توقيع اتفاقات إحضار قانونية، وانتشار البؤر غير الخاضعة للدولة.
المعروف أن لبنان كان على الدوام ملجأً للمعارضين السياسيين من دول المنطقة، ولكن مع تصاعد النفوذ العسكري لبعض الأطراف، أصبح هؤلاء المطلوبين يجدون الحماية في مناطق تسيطر عليها قوى معينة، سواء داخل “حزب الله” أو المجموعات المسلحة الأخرى.
حادثة “افتراضية”
وفي نموذج فاضح للتسيب الحاصل على الأراضي اللبنانية، برزت قضية رجل الأعمال العراقي نور زهير قبل أسابيع قليلة، الملاحق في بلاده بقضية الاستيلاء على 2.5 مليار دولار من أموال “الأمانات الضريبية”، في واحدة من كبرى فضائح الفساد المالي في العراق، التي تعرف بـ”سرقة القرن” إعلامياً.
وزهير الذي قالت تقارير صحافية إنه دخل إلى لبنان عبر جواز سفر مزور، حط في مطار بيروت الدولي عبر طائرة خاصة متجاوزاً إجراءات الملاحقة. وبعدها بأيام قيل إنه تعرض لحادثة سير وأصيب إصابة بالغة، منعته بعد من حضور جلسة المحاكمة المحددة له في بغداد بنهاية أغسطس (آب) الماضي.
والخطر في القضية أن زهير استطاع دخول أحد المستشفيات والحصول على تقرير طبي يتناسب مع “المسرحية” المركبة، إضافة إلى انتشار معلومات عن قيامه بعملية لتغيير ملامح وجهه في أحد المستشفيات المتخصصة، قبل أن يغادر لبنان إلى وجهة أخرى، في حين لم تتم ملاحقة أي من المشاركين أو الذين سهلوا الإجراءات التمويهية التي قام بها.
كارلوس غصن دخل بشكل شرعي
وقبل قضية نور زهير بسنوات وتحديداً عام 2019، ضج لبنان بخبر هروب مدير شركة نيسان السابق، كارلوس غصن، إلى لبنان من اليابان حيث يواجه اتهامات بمخالفات مالية. وكان غصن المطلوب من الأنتربول وفق النشرة الحمراء، قال حينها في بيان إنه لم يهرب من العدالة، وإنما هرب من “الظلم والاضطهاد السياسي”. وبعدها أكدت السلطات اللبنانية أن غصن دخل لبنان “بصورة شرعية”، مؤكدة أن لا شيء يستدعي ملاحقته، إذ لا تبيح القوانين اللبنانية تسليم المواطنين إلى دولة أجنبية لمحاكمتهم.
وفيما لا تزال حتى اليوم تفاصيل فراره من اليابان مجهولة، أكد مصدر في الرئاسة اللبنانية لوكالة الصحافة الفرنسية حينها أن غصن وصل على متن طائرة جاءت من تركيا، مستخدماً جواز سفر فرنسياً وبطاقة هويته اللبنانية.
مطلوبون وإرهابيون
وليس بعيداً عن قصة نور زهير، لا يختلف المتابعون للوضع الأمني في لبنان على أن البلاد باتت بمثابة حديقة خلفية لقادة من حركتي “حماس” و”الجهاد”، حيث تستفيد من وجود مخيمات فلسطينية، بخاصة في الجنوب وصيدا، التي تعتبر مناطق ذات خصوصية أمنية، يصعب على السلطات اللبنانية التدخل فيها، حيث يختبئ فيها العديد من المطلوبين، وكذلك بعض المتطرفين الذين لديهم أجندات إقليمية.
وكذلك عناصر من “القاعدة” و”داعش” اتخذوا من لبنان منصة لتحركاتهم، إذ شهدت بعض المخيمات الفلسطينية، مثل مخيم “عين الحلوة”، وجوداً لعناصر تنتمي إلى التنظيمين، يعتبرون من أخطر المطلوبين في المنطقة واستفادوا من الفوضى التي تعيشها هذه المخيمات للهرب من الملاحقات الأمنية.
وهناك العديد من الشخصيات التي يُشتبه في أنها لجأت إلى لبنان أو المخيمات هرباً من الملاحقة القانونية في بلدانها منها الفلسطيني- الأردني شاكر العبسي الذي أسس “فتح الإسلام”، والمتهم بالتورط في أعمال إرهابية، بما في ذلك المعارك التي اندلعت في مخيم نهر البارد في شمال لبنان 2007، وكان مطلوباً في الأردن وسوريا بسبب أنشطته الإرهابية، وبرز كواحد من أهم الشخصيات المتطرفة التي احتمت في المخيمات الفلسطينية.
وأسامة الشهابي القيادي البارز في “جبهة النصرة” في لبنان من الجنسية الفلسطينية، متورط في أنشطة إرهابية متعددة داخل لبنان وسوريا، ويُعتقد أنه استخدم مخيم “عين الحلوة” كقاعدة للهرب من الملاحقة الأمنية والتخطيط للعمليات الإرهابية.
ومن بين الهاربين المصري هشام عشماوي، والذي كان ضابطاً سابقاً ومؤسس جماعة “أنصار بيت المقدس” الإرهابية، وكان مطلوباً من السلطات المصرية بتهمة التخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية، وهناك تقارير تشير إلى أنه لجأ لفترة إلى مناطق في لبنان، بما في ذلك بعض المخيمات الفلسطينية، قبل أن يُعتقل لاحقاً في ليبيا.
ويعتقد أن الفلسطيني فادي شاكر الصالح، هرب إلى مخيم “عين الحلوة” بعدما شارك في معارك نهر البارد وهجمات إرهابية أخرى داخل لبنان، وكذلك القيادي في تنظيم “القاعدة” أبو أيوب العراقي، والذي يُشتبه بأنه هرب إلى لبنان بعد سقوط نظام صدام حسين، ويُعتقد أنه لجأ إلى بعض المناطق في جنوب لبنان، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية.
السوري عبدالله الأصيل، أحد قادة “داعش”، متورط في عمليات إرهابية في سوريا ولبنان، ويُشتبه بأنه لجأ إلى مخيم “عين الحلوة” بعد اشتداد الضغط العسكري على التنظيم في سوريا.
مطلوبون في دول عربية
ولم يتوقف ذلك على التنظيمات المتطرفة، إنما عمل “حزب الله” على استقطاب مطلوبين من دول عربية، المتهمين بقضايا تتعلق بالإرهاب أو تهريب المخدرات، بهدف استخدامهم ضمن أجندات ضد دولهم، فأمن لهم ملاذاً آمناً، بخاصة في المناطق التي يسيطر عليها ولا تخضع لسيطرة الدولة.
وكانت تقارير عربية عدة أشارت إلى أن “حزب الله” يستغل لبنان لتنفيذ عمليات تهريب أسلحة وتدريب عناصر مسلحة من دول عربية على حرب العصابات والعمليات الإرهابية، ويعاد إرسالهم إلى دولهم لزعزعة الأمن والاستقرار.
استخدام الحدود
وبفضل نفوذه العسكري والسياسي فإن “حزب الله”، الذي يسيطر فعلياً على أجزاء كبيرة من الحدود اللبنانية مع سوريا، والمعابر غير الشرعية، عمل على نقل مسلحين بين لبنان وسوريا، وكذلك إلى دول أخرى في المنطقة، خصوصاً إلى العراق واليمن، وهذا التنقل يشمل عناصر مدربين ومجهزين لزعزعة الاستقرار في تلك الدول، بما يخدم مصالح إيران وأذرعها الإقليمية.
وعمل “حزب الله” على تسهيل حركة قادة “الحرس الثوري” الإيراني، حيث يعتبر لبنان محطة أساسية لعمليات “فيلق القدس” الإيراني، إذ يستخدم قادة هذا الفيلق الأراضي اللبنانية كقاعدة لنقل الأسلحة والمقاتلين إلى مناطق النزاعات في سوريا والعراق واليمن، كما تشير تقارير عدة إلى استخدام مطار بيروت الدولي كنقطة عبور لهم ولا سيما لبعض القيادات الإيرانية، الذين يدخلون ويخرجون من لبنان لتنظيم العمليات العسكرية وتنسيقها مع “حزب الله” وفصائل أخرى في الشرق الأوسط.
منطقة خطرة
وفي السياق يوضح المحلل الاستراتيجي العميد ناجي ملاعب، أن المخيمات في لبنان تشكل ملاذاً آمناً للإرهابيين والخارجين عن القانون والفارين من وجه العدالة من داخل لبنان ومن البلدان المجاورة، حيث يعتبرونها منطقة للاختباء والتحرك بحرية بعيداً من الرقابة، لافتاً إلى أنه مع اتساع رقعة الفراغ الأمني في لبنان وتزايد حدة التحديات التي تواجه الدولة، والانهيار الشامل في المؤسسات برزت بؤر جديدة للفوضى، تحت نفوذ جماعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة.
وأشار ملاعب إلى أن الجماعات المسلحة تستغل الفراغ الأمني وغياب الرقابة وضبط الحدود، مما يهدد بتحويل كامل الأراضي اللبنانية إلى منطقة خطرة، معتبراً أن سياسة الحكومة الحالية تعزز من هشاشة الوضع الأمني في ظل الأزمة الاقتصادية المتردية وتفتح المجال أمام تحول ولاء العناصر العسكرية من الولاء للمؤسسة العسكرية والأمنية إلى ولاء غير مرتبط بالدولة.
وبرأيه، فإن الترهل في الجهاز القضائي يفاقم الأوضاع الأمنية في لبنان، فالسلطات القضائية تغض النظر عن ملفات هامة وتتركها في “الدرج” إلى جانب قضايا أخرى مثل تفجير المرفأ وملف المودعين، كما هي الحال بالبت في قضايا الهاربين. وقال إن “الترهل القضائي يعزز من جذب الفئات الخارجة عن القانون إلى لبنان، حيث إن غياب المحاسبة والتدابير القانونية الفعالة يعني أن هؤلاء الهاربين لن يخضعوا للترهيب والتغريم أو السجن أو الترحيل”.
التكامل مع “الدولة”
في المقابل يرفض المستشار في العلاقات الدولية دكتور قاسم حدرج تحميل “حزب الله” مسؤولية الفوضى الحاصلة في البلاد إن كان في المطار أو في مناطق متفرقة بين الشمال والجنوب والبقاع شرقاً، معتبراً أن غياب الدولة والصراعات السياسية فتحا المجال لدخول عناصر متطرفة إلى مناطق عدة في البلاد.
ويتحدث حدرج عن استخدام لبنان من قبل هؤلاء منطلقاً لاستهداف “المقاومة”، مؤكداً أن تلك العناصر استهدفت الضاحية الجنوبية بعمليات إرهابية عدة، وأنه لولا قدرات الحزب وتنسيقه مع أجهزة الدولة لكانت تحولت الضاحية وأماكن أخرى إلى مسرح للمتطرفين.
وبرأيه، فإن دخول “حزب الله” على خط العمليات في سوريا حمى لبنان من أن يتحول إلى “إمارة” متطرفة تؤدي إلى ضرب استقرار المنطقة، مشيراً إلى أن المخيمات الفلسطينية كانت تحتضن متطرفين وإرهابيين يريدون استهداف “حزب الله”.
أما عن دخول قيادات إيرانية والميليشيات الموالية لإيران، فلفت إلى أن الحزب لديه تنسيق أمني مع أجهزة الدولة، وأن دوره العسكري قانوني بموجب البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، مشيراً إلى أن سرية بعض التحركات مرتبطة بعدم انكشاف حركتهم أمام إسرائيل.
تسخير “الدولة”
من ناحيته، ينبه المتخصص في الأمن القومي ودراسات الحرب والاستراتيجيات العميد يعرب صخر، من التداعيات الخطيرة لسيطرة الميليشيات على السلطة، معتبراً أن الدول التي تهيمن عليها الميليشيات تشهد تآكلاً حاداً في سيادتها الوطنية، حيث تستولي هذه الجماعات على جميع المقدرات والموارد، مما يؤثر سلباً في الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وتسيطر على جميع مستويات الدولة، من أعلى المناصب إلى أسفلها.
وأشار صخر إلى أن التهديدات التي تشكلها الميليشيات لا تقتصر على الأمن القومي فقط، بل تمتد لتؤثر في استقرار المجتمعات المحلية والإقليمية، كاشفاً أن الدولة اللبنانية تتعثر أمام سيطرة الميليشيات وتأثيراتها السلبية على مختلف جوانب الدولة، وصولاً إلى المؤسسة التشريعية التي تُعاني من التقييد والجمود نتيجة النفوذ القوي لهذه الجماعات فيها، وكذلك القضاء حيث تخترق عناصر هذه الميليشيات النظام، مما يؤدي إلى تقويض استقلاليته وفعاليته، فتشكل الميليشيات غير الشرعية التي تنضوي تحت لواء بعضها البعض وتتقاطع مصالحها، تهديداً مباشراً للدولة اللبنانية ودستورها وتتدهور القيم الأخلاقية وينعدم السلم الاجتماعي.
ووفق المتحدث فإن لبنان تحول إلى نقطة جذب للهاربين من العدالة، مستفيدين من قدرة الميليشيات على جعل لبنان ملاذاً آمناً لأولئك الذين يسعون للهروب من القوانين والأنظمة في أوطانهم، مشيراً إلى أن هؤلاء يهرّبون أموالهم ويتجنبون الحسابات القانونية في بلدانهم، موضحاً أن أبرز الملاذات الآمنة هي المخيمات الفلسطينية وتلك التي يسيطر عليها “حزب الله”، وحلفائه منهم “حركة أمل” و”سرايا المقاومة” و”الحزب القومي السوري”، حيث يستفيدون من الأموال المهربة التي يحصلون عليها من هؤلاء الهاربين.
ويرى صخر أن “حزب الله” يستفيد من أموال الهاربين كجزء من تعاملاتهم غير المشروعة، وتجارة الممنوعات وتجارة السلاح، إضافة إلى التعامل مع العناصر الفاسدة، تسهم في تعقيد جهود مكافحة التمويل غير المشروع وتعزيز نفوذ الحزب في لبنان والمنطقة، مؤكداً أن تأمين حماية الأفراد الخارجة عن القانون لم يعد مقتصراً على المخيمات الفلسطينية داخل لبنان، بل باتت تلك العناصر منتشرة في كل المناطق التي تفتقر إلى سلطة الدولة أو حيث تكون السلطات الرسمية والقوى الأمنية غير فعالة، ويُعزى ذلك إلى قوة وسيطرة الميليشيات.
وقال صخر إن جميع مرافق الدولة الأساسية، بما في ذلك المطار والمرافق البحرية، وأيضاً النقاط البرية التي تربط لبنان بسوريا، أصبحت تحت سيطرة “حزب الله” ما أسهم في تآكل السيادة الوطنية وتعزز من قدرة الميليشيات على تنفيذ نشاطاتها غير المشروعة.