ارتبط لبنان منذ القرن الـ19 بالغرب، الذي شكل بالنسبة إلى أكثرية من اللبنانيين على اختلاف طوائفهم مرجعية فكرية وثقافية، جلبت معها المرجعية السياسية والاقتصادية.
ولقب “بلد الأرز” بـ”سويسرا الشرق” قبل أن تحوله التدخلات الخارجية والحروب الداخلية والانقسامات السياسية إلى بلد متأزم سياسياً ومنهار اقتصادياً، يعيش على إيقاع النزاعات الإقليمية تارة والتسويات تارة أخرى. وفي ظل غياب سياسة خارجية واضحة مبنية على المصلحة الوطنية، كان “الخارج” بالنسبة إلى عدد من اللبنانيين، المنقذ أحياناً والمعطل أحياناً أخرى. واختلفت هوية “الخارج” للتصويب عليه، بين فريق وآخر وفقاً للاعتبارات الطائفية والعقائدية والأيديولوجية. وفي حين اعتبر بعضهم مثلاً أن الغرب المتمثل بالولايات المتحدة والدول الأوروبية وخصوصاً فرنسا، فشلوا في مساعدة لبنان لإيجاد حل لأزماته السياسية والاقتصادية، اتهم فريق آخر الشرق المتمثل بإيران مسؤولية تدهور الأوضاع في لبنان نتيجة “توحيد الساحات”. ورفع حليف طهران في لبنان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله شعار التوجه شرقاً لإنقاذ لبنان، وطرح رئيس الجمهورية السابق ميشال عون اعتماد ما سماه “المشرقية العربية”، لكن المعارضة اعتبرت أن خيار التوجه شرقاً يهدف إلى مزيد من الالتحاق بمحور “إيران”.
وفي ظل الاصطفافات والاختلاف بالرأي هناك من يسأل أين مصلحة لبنان شرقاً أم غرباً؟ وهل الأمور يجب أن تكون مطروحة بصيغة “إما شرقاً وإما غرباً”؟ وهل استحضار خيار “الشرق أو الغرب” لا يكون إلا إرضاء لطائفية – مصلحية ما؟ أو لـ”كسب أنصار”؟ أو “نكاية بالآخر”؟
المشكلة في الدولة الضعيفة
يشرح مدير وحدة الدراسات في مركز الدراسات العربية الروسية ديمتري بريجع إلى أن “التوجه غرباً واعتماد لبنان للنموذج الحر الليبرالي كان أحد أسس الدولة اللبنانية المتنوعة طائفياً، التي قامت على نظام ومؤسسات ذات توجه انفتاحي علماني، ولكن لبنان وبسبب افتقاده إلى خطة طويلة الأمد خسر الازدهار والقدرة على جذب الاستثمارات وقيام اقتصاد قوي”.
ويصف الباحث الروسي الوضع القائم في لبنان بـ”المحرج”، بسبب وجود ميليشيات وتيارات سياسية مختلفة، ويعتبر أن “المشكلة الأساسية تكمن في المجموعات السياسية التي ترى نفسها أهم من الحكومة للبنانية وأهم من الجيش اللبناني، إذ لا يمكن لأي بلد أن يكون فيها جيش ثان”. والأمثلة على ذلك كثيرة يضيف الباحث الروسي، ففي موسكو مثلاً عندما تمردت مجموعة “فاغنر” تسببت بتهديد مصالح الجيش الروسي ومصالح الأجهزة الأمنية فكانت نهايتها، وفي السودان أيضاً حصل الانقسام مع وجود القوات المسلحة السودانية وقوات “الدعم السريع”، وفي ليبيا الشيء ذاته. ويعتبر بريجع أنه “نظراً إلى وجود جيشين في لبنان ضعفت الدولة اللبنانية مما سمح لكثير من الدول في التدخل بشؤونه الداخلية”، أما عن الارتباط بالشرق أو بالغرب فيعتبر أن “أي ارتباط أحادي ليس إيجابياً”، داعياً إلى “اعتماد نموذج الدول العربية وبعض دول الخليج التي بنت علاقات مع جميع الأطراف”، وهذا النموذج بحسب رأيه هو الأفضل. “فمعاداة أية دولة تصنع لك عدواً، وهذا العدو لن يفيد وستخسر شريكاً استراتيجياً مهماً”، ويعتقد المتحدث ذاته أن “لبنان في وضعه القائم يحتاج إلى بناء علاقات مع كل الدول بما فيها الولايات المتحدة وروسيا ودول أخرى، ولكن يجب أن يكون لديه أيديولوجية معينة أو استراتيجية واضحة متفق عليها في داخله لمواجهة تدخل الخارج، أما إذا بقي الوضع على حاله بمعنى أن يكون كل تيار سياسي ممولاً من جهات خارجية، فهذا سيسبب مزيداً من انهيار المؤسسات الرسمية وتراجع نموذج الدولة المتطورة”، ولا يخفي الباحث الروسي دور إيران، معتبراً أنها “تعمل لمشروعها حتى تتحول المنطقة إلى كيانات سياسية تدعم سياساتها بالمطلق”.
لعلاقات دبلوماسية مع كل الدول
في السياق يجزم عضو تكتل “الجمهورية القوية” (كتلة حزب القوات اللبنانية في البرلمان) النائب غسان حاصباني لـ”اندبندنت عربية” أن “المعارضة لم تراهن على أحد”، ويؤكد أنها “راهنت على قدرتها الذاتية التي اكتسبتها من أصوات اللبنانيين وعلى الدستور اللبناني وما تبقى من النظام الديمقراطي والضغط الشعبي بعد الثورة (2019)”، ويوضح أن “حزب القوات اللبنانية كما المعارضة يتواصل مع العواصم المهتمة بالشأن اللبناني وخصوصاً بموضوع الإصلاحات وبرنامج صندوق النقد الدولي، وهذا لا يعني أننا نخدم أجندة معينة”، ويعترف النائب القواتي أن “لا الغرب ولا الشرق يضع لبنان في أعلى سلم أولوياته والكل يعمل بحسب مصالحه الحالية”، أما في شأن القول إن الغرب فشل في حل أزمات لبنان، فيرى حاصباني أنه “لا يمكن التعميم حول سياسة الغرب لأنها تتبدل مع تبدل الإدارات، إن كان في الولايات المتحدة أم في الاتحاد الأوروبي”. ويعتبر أن لروسيا والصين مصالحهما أيضاً، مذكراً بأن “أبواب التجارة بين موسكو وبكين وبيروت مفتوحة كما هي الحال مع دول الغرب من دون تفرقة أو تمييز، أما على الصعيد السياسي فلا دور كبير لهما في لبنان باستثناء الدور الطبيعي ضمن العلاقات الدبلوماسية الثنائية”.
ويشدد حاصباني على ضرورة “ألا يبقى لبنان ساحة للصراعات الاقليمية والدولية، وألا يحمل تبعات كل قضايا ونزاعات المنطقة، على رغم أنه في وسط دائرة تاريخية تمتد من أوكرانيا إلى باب المندب، ومن إيطاليا إلى إيران، حصلت فيها غالبية النزاعات الكبرى على مر التاريخ”، ويضيف “يجب التعويل على العمل الداخلي لتحييد لبنان وعدم استحضار الغرب أو الشرق إلا لما هو في مصلحة لبنان، الذي يجب أن يتفاعل بطريقة بناءة وإيجابية في الأمور الاقتصادية والاجتماعية مع محيطه العربي أولاً ومع المجتمع الدولي ثانياً، ويبني علاقات دبلوماسية سليمة مع الدول كافة”.
“حزب الله”: لتنويع العلاقات الدولية والإقليمية
في المقابل شرح عضو كتلة “حزب الله” “الوفاء للمقاومة” النائب علي فياض لـ”اندبندنت عربية” أن المقصود بطرح “الاتجاه شرقاً” هو “حق لبنان في تنويع علاقاته وعدم انحسارها في علاقاته غرباً، أي تتبع الفرص سياسياً واقتصادياً، التي تتيح له معالجة مشكلاته الاقتصادية والإنمائية والمالية وحتى السياسية في ظل العقبات الناشئة من جراء سياسة العقوبات الأميركية، وعلى سبيل المثال كما في قانون قيصر المفروض ضد سوريا أو العقوبات التي فرضت على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو بمجرد ربط التسهيلات والمساعدات وتدفق الاستثمارات بشروط سياسية”.
ويعتبر فياض أن “الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق الذي أصاب لبنان فرض عليه تتبع كل الفرص المتاحة للمساعدة العاجلة والاستثنائية، لكن ذلك غالباً ما كان يصطدم بعقبات منها استناد الأميركي لقانون قيصر كما حصل في تعطيل خط الكهرباء عبر الأردن والغاز المصري الذي يستدعي المرور بسوريا، أو في إعاقة عروض كثيرة قدمتها إيران وخصوصاً في ما يتعلق بمشكلة الكهرباء التي كانت ترفض لبنانياً انطلاقاً من الخشية من رد الفعل الأميركي على تجاوز منظومة العقوبات المتخذة في حق إيران، وكذلك يرجح أن بطء التقدم باستثمار الحقول البحرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة محكوم باعتبارات تتعلق بتعقيدات الواقع الإقليمي على المستوى السياسي”.
ويشير النائب عن “حزب الله” إلى أن موقع لبنان مدرج في الاستراتيجية الصينية “الحزام والطريق”، في حين أغفل في استراتيجية “الممر الهندي”، وبطبيعة الحال لا يمكن عزل الاستراتيجيتين عن الخلفيات السياسية”. وشرح فياض أن “خيار الاتجاه شرقاً يهدف إلى تنويع علاقات لبنان الاقتصادية والسياسية وليس إعادة التموضع الجيوستراتيجي الإقليمي والدولي الذي يقطع علاقات لبنان مع الغرب، لأن ذلك يبدو غير واقعي وغير منطقي ويتناقض مع تنويع العلاقات التي يحتاج إليها لبنان، كما أنه في ظل خصوصية التركيبة اللبنانية التعددية لا يبدو ذلك أمراً ممكناً ومنسجماً”. إن البيئة الطبيعية الإقليمية التي يتحرك لبنان ضمن إطارها هي، بحسب فياض، “البيئة العربية مروراً بسوريا التي تشكل المنفذ البري الوحيد على الحدود الشرقية والشمالية، ويتناقض إخضاع علاقات لبنان بسوريا للسياسات الغربية المتشددة تجاه دمشق، مع مصلحة لبنان جذرياً”، ويختم فياض بالمحصلة بالقول “إن لبنان بحاجة إلى العمل على تنويع ركائز اقتصاده الوطني كما خلصت إليه خطة ماكينزي، ويحتاج إلى تنويع علاقاته الإقليمية والدولية كما تستدعي المصلحة الوطنية اللبنانية”.
المعيار هو المصلحة الوطنية
من جهته استغرب النائب إبراهيم منيمنة القول إن الغرب فشل في لبنان، مشدداً على أن مسؤولية الفشل تقع على اللبنانيين، رافضاً تحميل أية جهة خارجية هذه المسؤولية. ويؤكد منيمنة أن “اللبنانيين لم يتمكنوا من الاتفاق ضمن الأطر الديمقراطية على مصلحتهم الوطنية والسير بها، أما القول إن الغرب لم ينفع لبنان ولم يتمكن من مساعدته في حل أزماته، وبالتالي فإن الحل يكون في الاتجاه شرقاً، فهذا تبسيط أو تسطيح للمشكلة لخلق ميول عند الرأي العام باتجاه اصطفاف معين في المحاور الإقليمية والعالمية، وهذا لا يعبر بالضرورة عن المصلحة الوطنية”. ويعتبر النائب التغييري أنه “من المستحيل وضع إطار جامد والالتحاق بمحور والقول إن هذا المحور يفيد أكثر من المحور الآخر”، ويرى أن “لهذا المحور وذاك، حسنات وسيئات”. بحسب منيمنة “على اللبنانيين أن يكونوا على علاقة جيدة مع كل الدول بحيث يمكن أن يضمن لبنان مصالحه، خصوصاً في ظل هشاشة وضعه الداخلي والسياسي، وبالتالي التموضع الدولي يجب أن ينطلق من القدرة على التواصل مع القوى الفاعلة كافة في المنطقة، على قاعدة القدرة على التعبير عن المصلحة الوطنية البحتة”، ويسأل منيمنة “من قال إذا التحقنا بما يسمى بالمحور الشرقي فهذا سيحقق لنا كل شيء؟”. ويضيف “لا أحد يضمن هذا الأمر كما أن محور الغرب لديه مصالحه أيضاً، وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون مصالحه على حساب مصالحنا كما نحن نراها، فأين القرار الوطني الذي يمكن أن نحدد من خلاله متى وأين نتعامل مع الغرب أو مع الشرق؟”، ورأى أن “المطلوب هو سياسة خارجية مرنة وقادرة على التواصل مع كل المحاور، ونكون من خلالها مبادرين وليس فقط متلقين ونعبر عن مصلحة لبنان وبأي اتجاه يجب أن نتحرك، إذ يجب ألا نكون معزولين عن أية جهة”.
ويعتبر منيمنة أن “كل دول المنطقة لديها مصلحة بالتعامل مع كل الدول العالمية في القطاعات كافة، فعندما نتحدث عن الكهرباء مثلاً، لم لا نفتح مناقصة وليتقدم عليها أكثر من طرف وليفز صاحب السعر الأفضل، ولا مانع إذا كانت الصين أو غير الصين”، وفي الشق الاقتصادي يتابع منيمنة فإن “التعامل مع دول من المحور الشرقي لا يعني تخلي لبنان عن نظامه الاقتصادي الحر”، ويشدد على أن “النقاش يجب أن يكون اليوم حول تعريف أو تحديد مصلحة اللبنانيين التي على أساسها يتم تحديد الدول التي يجب أن يتعامل معها، وليس من منطلق اصطفافي أو أيديولوجي”.