حَجَبَ الضجيجُ داخل الحلقة المقفلة الرئاسية ومحاولاتُ كسْرها بحواراتٍ أو وساطاتٍ بدفْعٍ من قاطرة خارجية، حالَ المراوحة المخيفة في قلب الحفرة المالية السحيقة التي لاحت أولى إشاراتها العلنية خريف 2019 ومازالت تشكّل نقطة الجذب الأقوى للبنان نحو الثقب الأسود الذي يخشاه الجميع من دون القيام بما يلزم لوقف الانحدار نحوه.
وإذا كانت الأزمات السياسية ولا سيما الشغور المتمادي في رئاسة الجمهورية وما يولّده من دومينو فراغاتٍ وإرباكات في عجلة عمل المؤسسات وانسيابية دورتها ودورها هو المغذّي الأول للانهيار المالي، فإن التعاطي الرسمي في ذاته مع هذا الانهيار – رغم فرْملة سرعته في ضوء إجراءاتٍ تخديرية على حافة الهاوية المميتة – يبقى «الحمولة الأثْقَل» على مسار تعافٍ باتت معالمه وآلياته محدَّدة بوضوح ولكن السلطات المعنية تشيح بنظرها عنها وكأن العاصفة الأعتى التي تتقاذف لبنان ستنتهي لوحدها بوصْفها… «زوبعة في فنجان».
ولعلّ آخِر «الأدلّة» على هذا الواقع جاء بلسان بعثة صندوق النقد الدولي في ختام أحدث جولاتها الدورية على المسؤولين اللبنانيين حيث«بقّت البحصة» بوجه ما أعلنت أنه «افتقار الى الإرادة السياسية لاتخاذ قرارات صعبة، ولكنها حاسمة، لإطلاق الإصلاحات بما يترك لبنان في مواجهة قطاع مصرفي ضعيف، وخدمات عامة غير كافية، وتدهور البنية التحتية، وتفاقم ظروف الفقر والبطالة، واتساع فجوة الدخل».
وفيما تفترض ادارة صندوق النقد أن لبنان محكومٌ في آخِر المطاف بالاستجابة لحزمة الشروط الاجرائية والتشريعية الآيلة الى إبرام الاتفاق النهائي معها، بغية الفوز بـ «جزرة»سيولة نقدية تناهز 3 مليارات دولار، وتكفل، في الوقت عينه، فتح نوافذ تدفق المنح والقروض الدولية الى البلد المنكوب، فإن السلطات اللبنانية لا تجد ضيراً في المقابل من رشقها باتهامات جديدة بالتقصير وتعمّد المراوحة في العقم السياسي والتفنّن في المراوغة والتهرّب من مسؤوليات جبْه الانهيارات الماثلة على الصعد كافة بما يلزم من حوكمة سليمة واصلاحات هيكلية ومعالجات بنيوية تضع حداً فاصلاً للهدر والفساد ونزف الرمق الأخير لمقدرات الاقتصاد ومدخرات الناس.
ومن المؤكد، وفق مسؤول معني ومنخرط في حيثيات الملف، ان وصف«الافتقار الى الارادة السياسية» الذي استخلصته بعثة صندوق النقد في ختام أحدث جولاتها التي استمرت من 11 الى 14 الجاري، حَمَلَ الكثير من اللياقة الديبلوماسية في الصياغة، قياساً بما تبطنه الوقائع الحسيّة من وقوع الفريق الدولي في «كمائن»مُحْكَمة كادت تدفعه إلى إشهار النتيجة الموضوعية والتماهي مع حِكمة «فالج، لا تعالج».
ولم تكن عابرة في سياق الكشف عن عمق التباينات بين السلطات المعنية في تصنيف الأولويات، المداخلة اللافتة لرئيس لجنة المال النيابية ابراهيم كنعان عقب لقائه ورئيس لجنة الادارة والعدل النائب جورج عدوان مع بعثة الصندوق برئاسة ارنستو راميراز، حيث أكد أنّ اللقاء شهد مصارحة كاملة وعَرَضْنا كل شيء، ولا سيما المسألة المركزية التي يتهرّب منها الجميع وتعنى بالودائع«في البنوك»، مشدداً على انه«يجب وضع حلول لمسألة الودائع، وعمليةُ بيع المواقف للمجتمع الدولي لكسب رضاه ليست عملنا».
ومن هنا، بدا أن قضية الودائع المحجوزة في الجهاز المصرفي استعادت محوريتها وأولويتها في البحث، بعدما استكان فريق الصندوق إلى خطط حكومية تقارب التعهدات باعتماد قاعدة تحميل الجزء الأكبر من الخسائر المقدَّرة بنحو 75 مليار دولار بالطرف«الأضعف»بين ثلاثي الدولة والجهاز المصرفي والمودعين في البنوك.
ووفق هذه المعادلة، يجري التأسيس، وفق قناعة إدارة الصندوق وبعض من الحكومة، على إعادة تكوين الملاءة المالية للدولة بعد عزْل الفجوة المشهودة في قوائم المركز المالي للبنك المركزي، واستمالة السواد الأعظم من أعداد الحسابات في البنوك عبر ردٍّ متدرّج لشرائح مودعة بما لا يتعدى مئة ألف دولار للمودع الواحد كحد اقصى. واضطراداً يمكن للصندوق وسائر الجهات الخارجية المقرضة الاطمئنان إلى سداد أقساط الديون والخطوط الائتمانية الجديدة التي يجري ضخّها في شرايين القطاع العام ومؤسساته.
وسرعان ما اكتشفت البعثة، أنها تكابد في التواصل مع أفرقاء مختلفين وليس مع فريقٍ حاكِمٍ ومتوافق على رؤية واحدة وحلول تَشارُكية بـ«التضامن والتكافل»، بل ان رقعة الاختلافات العميقة تنتشر بين العازفين في«اوركسترا»السلطة الواحدة، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية، وتتمدّد الى القطاعات الأساسية وفي ومقدمّها القطاع المالي المعني أساساً بتطبيقات الاتفاق المعلّق على«الشجرة»الداخلية المسمومة.
ولذا، لم تجد البعثة سبيلاً للخروج من واقع«الاحتجاز»في حال عدم اليقين الذي يشي بانزلاقاتٍ أكثر عمقاً في الأزمة التي تشارف على دخولها العام الخامس، سوى رفْع راية «الاستسلام» لجدلية إعادة تكوين السلطات، بدءاً من انتخاب رئيس جديد للجمهورية وصولاً إلى تأليف حكومة مكتملة الصلاحيات، في حين ارتاح أهل الحكم، وحتى إشعار آخر، من الضغوط المتوالية لدفعهم الى تَجَرُّع كأس ترشيد الحوكمة وإصلاح ما أفسدوه عن سابق تصور وتصميم.
وفي التقييم الدوري، كرّرت البعثة استنتاجها بأن لبنان لم يَقُم باتخاذ الإصلاحات الضرورية بسرعة، وسيكون لهذا أثَر على الاقتصاد لسنوات مقبلة. وفي رسالة صاعقة للحكومة، وجدت أن«موازنة 2023 (أرسلت الحكومة مشروعها الى البرلمان) لا تزال تفتقر إلى الوقت والتغطية. وهي لا تعكس بدقة النطاق الحقيقي للعجز والتمويل النقدي المرتبط به. في حين أن مشروع موازنة 2024 المقترحة يجب أن تضمن أنها متّسقة مع عملية توحيد سعر الصرف، التي بدأ بها مصرف لبنان، وأنه يجب تجنب منح تفضيلات لبعض دافعي الضرائب على حساب الآخرين، ويتعيّن أيضاً أن تتضمن موارد كافية لإعادة بناء إدارة الضرائب لتعزيز الامتثال وزيادة عدالة الضرائب».
ويُخشى في ضوء الافصاح الدولي عن هذه الملاحظات الأساسية أن يشهد مسار تشريع الموازنة شبه الصُوِرية لعامٍ يلفظ أشهره الأخيرة، سجالات أكثر حدّة في الردهات النيابية المتربّصة للانقضاض على التوجهات المالية للحكومة والمبنية حقيقةً على معادلات حسابية ورقمية بحت، والزاخرة بفرسان ضريبية تؤجج أحوال البؤس التي تحاصر غالبية الفئات الاجتماعية، والتي يزيدها تَفاقماً إقرار البعثة بأن«التضخم مازال في الأعداد ثلاثية الأرقام، ما يضغط بشكل إضافي على الدخل الحقيقي، واستمرار انخفاض احتياطي العملات الأجنبية في النصف الأول من العام، بما في ذلك بسبب تمويل مصرف لبنان لعمليات شبه مالية والعجز الكبير في الميزان التجاري».
وتحتاج الحكومة، وفق الخلاصات الدولية، إلى تنفيذ استراتيجية مالية منسجمة لاستعادة استدانة مستدامة وإيجاد مساحة للإنفاق الاجتماعي والبنية التحتية. ولتكون هذه الاستراتيجية فعالة، فإن تحسين استجابة الإيرادات هو أمر بالغ الأهمية. علماً أن الحكومة قامت باتخاذ إجراءات تدريجية نحو تعديل تحصيل الإيرادات لتحسين قيمة القاعدة الضريبية بشكل أكثر واقعية وإعادة ضبط جداول ورسوم الضرائب إلى قيم معقولة، ما أسفر عن زيادة ملحوظة في الإيرادات. ومع ذلك، هناك حاجة للقيام بالمزيد.
وبالمثل، يمكن التكهن وفق المسؤول المالي المعني، بأن رحلة التشريع ستطول أيضاً بما يخص قانونيْ وضْع ضوابط استثنائية على الرساميل والتحويلات (كابيتال كونترول) وإعادة هيكلة المصارف. فالأول جاهز من حيث الصياغة، إنما دون إقراره اعتراضاتٌ كامنة ومواقف حاسمة لكتل نيابية وازنة تنادي بأولوية انتخاب رئيس الجمهورية على أي شأن تشريعي لا يقع في تصنيف«الضرورات القصوى». أما الثاني فهو ملتبس في الإعداد وتَبادُل المسؤوليات بين السلطتين التنفيذية والنقدية، وما من إشارات واعدة لقرب انسيابه، ولا سيما انه سيبني موضوعياً على حصيلة ورشةِ تدقيقٍ دولي بميزانيات البنوك العاملة.
وفي تصنيفٍ«نادر»للخطوات في الاتجاه الصحيح، نوّهت البعثة بالقرارات الأخيرة التي اتخذتها الحاكمية الجديدة لمصرف لبنان للتخلص تدريجياً من منصة صيرفة، وإنشاء منصة تداول عملات أجنبية مرموقة وشفافة، ووقف استنزاف احتياطات العملات الأجنبية، والحد من التمويل النقدي، وزيادة الشفافية المالية.
وبناءً على هذا التقدم، وجدت«الآن»فرصةً للإصلاحات الشاملة لتعزيز حكم مصرف لبنان ومحاسبته وعمليات تداول العملات الأجنبية وفقاً لأفضل الممارسات الدولية. علاوة على ذلك، شددت على وجوب توحيد جميع أسعار الصرف الرسمية بسعر السوق ما سيساعد في القضاء على فرص التحكّم بالأسعار والربح التي تثقل عبء المالية العامة.
… إنه سِباقٌ قديم – جديد بين انهيارٍ مالي يقترب من استعادة سرعته العالية وبين انهياراتٍ مؤسساتية – بدءاً من أزمة رئاسة الجمهورية – سارت معالجاتها العقيمة بوتيرةٍ سلحفاتية على مدى نحو 11 شهراً، ولا أحد يجزم بمآلات المحاولة المتجددة لإنهاء الشغور قبل أن يطفئ شمعتَه الأولى (في الأول من نوفمبر) في القصر المسكون بـ… الفراغ.