وسط هذه الحال الصعبة، لم تجد ابنة قرية برقا، في البقاع الشمالي، سوى البقاء في بلدها، والاعتماد على جهودها لمواصلة العيش، فعزمت على البدء بمشروع خاص، طالما راودها سابقاً، وهو صناعة «المونة البلدية» وتصديرها.
«المونة» جزء من التراث اللبناني، تتقن معظم السيدات في الأرياف والقرى الممتدة بين سهل البقاع وجرود الهرمل صناعتها، وهي ركن أساسي من نظام العائلات الغذائي، تعتمد عليه في طعامها اليومي.
لكن هذه «الحرفة» أصبحت في السنوات الأخيرة مصدر رزق كثير من العائلات الريفية، من خلال بيعها محلياً، أو تصديرها، خاصة في ظل الطلب المرتفع على المنتجات البلدية، بعد ارتفاع أسعار السلع المستوردة.
الدراسة والوظيفة بلا طائل
قبل سنوات، كانت الوظيفة في لبنان تؤمن دخلاً مقبولاً، وتعويضاً في نهاية الخدمة، يسند المرء في شيخوخته.
لكن مع تداعيات الأزمة المالية وانخفاض قيمة العملة الوطنية، انهارت الرواتب، واضمحلت قيمة تعويضات الموظفين، ما جعل راكيل تتخلى مكرهة عن حلمها في استكمال دراسة الحقوق ونيل وظيفة، حالها حال كثير من اللبنانيات.
توضح راكيل: «ما عاد راتب الوظيفة يؤمن احتياجات عائلة من أربعة أفراد بحاجة الى 45 مليون ليرة شهرياً كحدّ أدنى، إذا كانت متقشّفة بمصاريفها، ودون احتساب أي وضع صحي طارئ»، مضيفة: «تعويضات صرف قريبتي بعد 30 عاماً من العمل في وزارة التربية تعادل اليوم 500 دولار. ومتوسط الراتب الشهري للموظف في القطاع العام تدنى من ألف دولار تقريباً إلى 50 دولاراً».
البحث عن مخارج
وأكملت الفتاة أنه مع هذه التطورات أصبحت «غالبية الموظفين من حملة الشهادات العليا يبحثون عن عمل آخر، في القطاع الخاص، أو يفكرون بهجرة البلد نهائياً والعمل في الخارج».
وفي انعكاس لمدى صعوبة المعيشة وارتفاع التكاليف، تقول السيدة العشرينية لـ القبس، وهي تمسك بيد طفلها، الذي أحضرته من مدرسته، إنها واظبت طيلة السنة الدراسية على إيصاله صباحاً، والعودة به ظهراً، لتوفير تكلفة النقل الخاصة بالباص المدرسي، مشيرة إلى أن الأمر مضن لها، لاسيما أنها مضطرة لأخذ طفلتها الرضيعة معها.
وتضيف أنها تفعل ما في وسعها لتخفيف الأعباء المادية عن زوجها، الموظف في إحدى شركات الشحن.
الهجرة لها أثمان
في سبيل تحسين الوضع، جربت راكيل وزوجها الهجرة، غير أن محاولتهما لم يكتب لها النجاح، فالمسألة ليست يسيرة، ولها أثمان لا يستطيع الجميع تحمّلها، وهذا ما دفع الشابة إلى البدء بمشروعها بصناعة المونة وبيعها.
توضح الشابة: «طرقنا أبواب سفارات كثيرة سعياً إلى الهجرة، دون نتيجة. لم يبق أمامنا سوى خوض مغامرة العمل الخاص. في حال لمسنا أصداء ايجابية، سنبدأ بالبحث عن مكان خاص لتصنيع المونة وعرضها. وقد يهجر زوجي وظيفته لنستقر في ضيعتنا».
فكرة المشروع كانت في بال الفتاة منذ سنوات، إلا أن تنفيذها تأجل مراراً، لأن راتب زوجها قبل انفجار الأزمة المالية كان مقبولاً إلى حد ما، ولأنه في أعقاب الانهيار المالي مباشرة «لم نجرؤ على المخاطرة»، تقول راكيل.
متحمِّسة للبدء بالمشروع
أيام وينتهي العام الدراسي، وراكيل متحمّسة للانطلاق الى قريتها، للبدء بمشروع تعوّل عليه لمساندة أسرتها مادياً: «وضّبت كتبي وكراساتي الجامعية في صندوق، ووضعته على التتخيتة (مكان خاص بتجميع المستلزمات في البيوت اللبنانية)، لأستغل المكتبة في عرض مراطبين (عبوات) المونة، التي صنعهتا بيديي، ريثما يصبح بمقدورنا أن نستأجر مكاناً خاصاً لمشروعنا».
وتضيف راكيل: «بقدر حماستي وفرحي برؤية حلمي يتحقق فإنني قلقة ومتوترة، لكن الأمر يستحق المغامرة».
مساعدة أمها وحماتها
لتنفيذ حلمها، استعانت راكيل بوالدتها وحماتها، اللتين تتقنان هذه الحرفة، وساعدها في ذلك توفر المواسم، في بساتين الأهل والأنسباء، فالتفاح والكرز والمشمش لتحضير المربيات أو لتجفيفها، والحليب واللبن من الرعاة في الجرود لصنع الكشك واللبنة، والباذنجان من المزارعين لصنع المكدوس، فضلاً عن ورق العنب والفاكهة المجففة والزعتر والزيتون.
تلقّت أولى الطلبيات
بفرح البدايات، تخبرنا راكيل أنها تلقت أولى الطلبيات إلى الخارج: «سنرسل اليوم 5 كلغ كشك إلى أستراليا»، حيث يقيم ويعمل العديد من أبناء البلدة.
تبقى آمال راكيل ومن يعمل في صناعة المونة البلدية معلقة على السياح والمغتربين، الذين سيتوافدون بكثرة إلى لبنان، هذا الصيف، ولا بد أنهم سيحملون معهم شيئاً من منتجات بلدهم إلى مغترباتهم.
وفي توضيح لجودة ما يتم تصنيعه، تقول الفتاة: «تُصنّع كما لو أننا نحن من يستهلك المونة، دون مواد صناعية، أو حافظة، وعلى طريقة أجدادنا».
لوغو «الجذور»
هذا المشروع العائلي لا يزال في خطواته الأولى، وفي غضون أسبوع، يكون «لوغو» الشركة التي اختاروا لها اسم roots (جذور) قد أُنجز، ويُصار بعدها إلى الترويج له على وسائل التواصل الاجتماعي، «على أمل أن يتوسع نشاطنا العام المقبل إلى الخارج ونبدأ بتصدير منتجاتنا»، وفق راكيل.
وتتطلع الفتاة إلى إنجاح مشروعها، مع قريباتها العاملات فيه، لتعزيز استقلاليتهن المادية، وليكون حافزاً للنساء، للبقاء في قراهن، وفرصة لتطوير نساء الريف المهمشات، ويسهم من ناحية أخرى في إنماء قطاعي الزراعة والصناعة المحليين في هذه الظروف الصعبة.