لم تنتهِ الارتداداتُ الزلزاليةُ لانقلابِ الشرق الأوسط رأساً على عقب بفعل ما يشبه «بركان» التحولات الذي يكاد يُجْهِزُ على حقبةٍ تاريخية مديدة ويَفتح الطريق أمام مرحلةٍ لم تكتمل فصولُها بعد.
فمن حرب لبنان الثالثة المدمّرة وما تلاها من اتفاقٍ لوقف النار بـ «وصايةٍ أميركية»، إلى السقوط الناعم و«المريع» لنظام بشار الأسد وخروج إيران إلى إيران، ومباشرة روسيا العودة إلى روسيا.
وفي الوقت الذي نزل السوريون «يداً واحدة» إلى الساحات لطيّ صفحة الأسد والسجون والمَقابر والكبتاغون، ها هم على محكّ ثلاثة أشهر انتقالية لصوغ «سورية الجديدة» التي مدّ العالمُ يدَه لمباركتها.
وإذا كان عَدّاد الوقت لولادة «سورية الجديدة» يُحسب بالأشهر، فإن الساعةَ الرمليةَ لقيام لبنان مُغايِر تُضبط بالأيام: 22 يوماً، المسافة لانتخاب رئيس للجمهورية، و38 يوماً لانتهاء «المدة التجريبية» لوقف النار.
وهكذا فإن لبنان الذي شكل بوابة التحولات الكبرى عبر حربٍ بدأها «حزب الله» لإسناد غزة وخَرَجَ منها مُحَطَّماً بلا سَنَدٍ، ها هو الآن أمام اختبارِ التسليم بـ«قديمٍ» انتهى والانتقال إلى جديدٍ يُراوِغُ لتفاديه.
وليس أدلّ على «التحايل» للإفلات من العبور بلبنان إلى «عصرٍ جديد» في الإقليم، من إنكار «حزب الله» لأثمان الخروج من الحرب التي تَضَمَّنَها اتفاقُ وقف النار، الذي فاوَضَ عليه شريكُه والمفوض منه رئيس البرلمان نبيه بري وأقرّتْه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بمشاركة وزراء من الحزب، وهو اتفاقٌ لا يَحتمل الانتقائية ويَستند إلى ما هو أكثر من القرار الدولي 1701.
ومن الواضح أن «حزب الله»، الذي أقرّ بخساراتٍ موجعة، لم يكن أقلّها فداحةً سقوط حليفه في سورية وفقدانه «شريان حياة» لترسانته العسكرية، يبدو وكأنه يحاول الانحناءَ أمام «عاصفة وتمرّ» في مقاربةٍ أقرب إلى دفن الرأس في الرمال وإدارة الظهر لحجم الأعاصير التي هبّت ومازالت موجاتُها العاتيةُ تَضرب في غير مكان وقد يصيب وهجُها إيران عيْنها.
وهذا التذبذب يفسّر «المدَّ والجزرَ» المستمرّين حول الانتخابات الرئاسية في الطريق إلى جلسةِ 9 يناير التي تُدار المشاوراتُ السبّاقةُ لها وفق «بَرْمَجَةٍ» من «حزب الله» وبري تحاول تخفيفَ الأضرار التي لَحِقَتْ بالحزب، وتالياً بالمكوّن الشيعي، والحؤول دون تسييلها في المَشهد السياسي الجديد الذي سيتشكّل انطلاقاً من هوية الرئيس العتيد والحكومة التي ستولد في كنفه، في مقابل تَعاطي خصوم الحزب مع هذا الاستحقاق – الذي علّقتْه «الممانعةُ» منذ نوفمبر 2022 على حساباتٍ إقليمية زادتْ تعقيداً بعد «طوفان الأقصى» – بوصْفه «الترجمة الفورية» للانحراف الإيجابي في الواقع اللبناني بعيداً عن المحور الإيراني الذي يتشظّى تباعاً والمدخلَ لانهاء الانجرافِ الكارثي بالبلاد نحو هوةٍ سحيقةٍ عَزَلَتْها عن عمقها العربي وعن صمّام الأمان الخليجي وتركْتها منزوعةَ «حلقةِ الأمان» فريسةَ أزماتٍ كان أخطرها حرب لبنان الثالثة.
وفي وقت بدأ وزيرُ الدولة في وزارة الخارجية القطرية محمد بن عبدالعزيز الخليفي، زيارةً لبيروت استهلّها بلقاء كبار المسؤولين وتحديداً بري وميقاتي، على أن تشمل اجتماعاتُه أطرافاً سياسيين في سياق المحاولات المستمرّة لجعْل جلسة 9 يناير مثمرةً، علماً أن الدوحة تشكل جزءاً من «مجموعة الخمس» حول لبنان (تضم أيضاً الولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية، فرنسا ومصر)، تسود ضبابية كبيرة في ما خص مآلات هذه الجلسة في ظلّ تراجُع المناخات التي تَجزم بأنها ستُفْضي إلى تصاعُد «الدخان الأبيض».
ولا يرتبط «انكماش» التفاؤل بأن ثمة استحالة لتجميع 65 صوتاً لمرشّح أو آخَر في دورة الاقتراع الثانية (يتطلب الفوز فيها النصف زائد واحد ولكن مع نصاب حضور الثلثين أي 86 نائباً)، بل بأن الجميعَ «أخذوا عِلماً» بطريقةٍ أو أخرى بأن أي «تَلاعُب» بهذا الاستحقاق في محاولة للعودة بعقارب الساعة إلى ما قبل تَقَلُّص نفوذ «حزب الله» عسكرياً وتَساقُط حلقات «المحور الإيراني»، ولا سيما النظام السوري، ستعني أن المجتمعين العربي والدولي اللذين تولّيا رعاية اتفاق وقف النار لن يشكّلا رافعةً لـ «لبنان قديم» يتخبّط تحت ركام حربٍ ربما تعود، بحال أصرّ «حزب الله» على أن شيئاً لم يتغيّر في وضعه كما واقع المحور برمّته، وتحت حُطام وضع اقتصادي ومالي منهارٍ منذ خريف 2019.
مواصفات المرحلة وتحوّلاتها
وفي حين صارتْ قوى المعارضة، وفي مقدّمها «القوات اللبنانية» صاحبة أكبر كتلة برلمانية والتي تُعتبر قاطرةً للتمثيل المسيحي في البرلمان، هي التي تعبّر عن «المزاج الرئاسي» في بُعده الخارجي، كونها الأكثر تماهياً مع معايير للرئاسة تعكس مواصفاتِ المرحلة وتحوّلاتها بما في ذلك مضامين اتفاق وقف النار وإنهاء وضعية «حزب الله» خارج الدولة، وهي المعايير التي لطالما نادتْ بها قبل هذه المتغيرات، فإنّ أوساطاً سياسية استوقفها اعتبار «القوات» أن جلسة 9 يناير بالغة الأهمية ولكن إذا لم «تنضج» ظروفُها لا ضير من أن يحصل ذلك بعد يومين أو أكثر بقليل.
واشتُمّ من هذا الموقف أنّ النواةَ الرئيسية للمُعارضةَ (31 نائباً)، التي بات «وزْنُها» في الاستحقاق الرئاسي يرتكز على تسليمِ الآخَرين بأن أي رئيسٍ من دونها سيعني «تعميق الحفرة»، ليست في وارد المسايرة وتغطية وصول اسمٍ لا يعبّر عن التطلعات إلى قيام دولة «مكتملة المواصفات» وطيّ صفحة «الدويلة داخل الدولة» واسترهان اللبنانيين لمشاريع خارجية لم تجلب لهم إلا الخراب والدمار، وسط معطياتٍ تفيد أن كتلاً عدة تتلاقى مع هذه المعايير ومع الحاجة إلى رئيس يصالح لبنان مع الغرب والعرب ويُعيد إليه «أحزمة الأمان» التي لطالما شكّلت «واقي صدمات» له، وبينهم كتلة «اللقاء الديمقراطي» (النائب تيمور وليد جنبلاط)، والنواب السنّة الذين استوجب الحدَث السوري من بعضهم (مما كان يُعرف بـ 8 مارس) إعادة تموْضع لابدّ أن تتظهّر تباعاً.
«اللائحة ب»
وفيما تستعدّ الساحة الداخلية لمزيدٍ من الحِراك واستيلاد تجمّعاتٍ نيابية، بالتوازي مع خروج مرشّحين إلى العلن مثل النائب نعمة افرام الذي زار أمس بري، أو النائب فريد هكيل الخازن الذي يَكثر الحديث عن أن زعيم «المردة» سليمان فرنجية (كان مرشح الثنائي الشيعي) يطرحه كـ «بديل» مقبول منه بعد انتفاء حظوظه في ضوء المتغيرات الكبرى والذي التقى للمرة الأولى رئيس «القوات» سمير جعجع في معراب، بدا من الصعب تمييز «المناوراتيّ» من الحقيقيّ في بورصة الأسماء التي تُرمى والتي تترافق مع ضخّ أجواء عن حرْق مرشحين كانوا«الأوائل»وارتفاع حظوظ آخَرين من «اللائحة ب» كما عن أسماء «مستورة» لن تُكشف إلا في ربع الساعة الأخير.
ولكن من قلب هذه الرمادية، يسود اقتناعٌ بأن طبيعة المرحلة شبه «التأسيسية» تتطلب شخصيةً ذات صدقية عالية ومحطّ ثقةِ الداخل والخارج وليس مجرّد رئيسٍ «تقني»، وهو ما يُبْقي على قائد الجيش العماد جوزف عون كأبرز المرشّحين وإن الذي ينقصه حتى الآن غطاء المكوّن الشيعي، وسط اعتقادِ الأوساط السياسية أن أي إطالةٍ لأمَد الاستحقاق الرئاسي لِما بعد 20 يناير، مع ما قد تشهده الفترة الفاصلة عن هذا التاريخ من أحداث غير متوقَّعة في الإقليم المتحوّل، ستترك بدورها المزيد من التأثيراتِ على رئاسية لبنان خصوصاً على «الممانعة الجريحة» التي تَمْضي من تراجُع إلى آخر.
في موازاة ذلك، وعلى وقع إمعان إسرائيل في تنفيذ اتفاق وقف النار في جنوب الليطاني وشماله، بحجة إزالة أي «تهديد وشيك أو في طور التشكّل»- ومن دون أن يُعرف هل تفعل ذلك بعد تقديم شكوى إلى«لجنة الرقابة الخماسية» وامتناع «حزب الله»عن الاستجابة أم لا – حيث نفذت أمس غارة بمسيّرة على النجارية قضاء صيدا وأخرى بالطيران الحربي على تبنا بين الصرفند وقعقعية الصنوبر، أجرى رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس محادثات في بيروت أكد خلالها «أن المجتمع الدولي واليونان يبذلان أقصى ما يمكن القيام به لتأكيد احترام وقف النار والقرار 1701 الذي يضمن سيادة لبنان الكاملة على الأراضي اللبنانية وتوفير الشروط للأمن والسلام المستدام لشعبه».
وإذ أكد أن بلاده ستكون الى جانب لبنان «وسننضم إلى مجلس الأمن كعضو غير دائم في يناير، ونريد أن نكون عاملاً يساهم في الاستقرار في كل المنطقة»، اعتبر«أن سقوط نظام الأسد تطور نرحّب به، وهو ينطوي ايضاً على مخاطر في ما يتعلق بالهجرة والأمن، وعلينا ان نعمل معاً وبشكل جَماعى لضمان سيادة وسلامة أراضي سورية واحترام حقوق الانسان في كل المجتمعات والفئات الاثنية في هذا البلد الذي يتمتع بتاريخ تراثي مهم للغاية».
السفارة اللبنانية في سورية
من جهته أكد ميقاتي، الذي أعطى توجيهاته بإعادة فتح السفارة اللبنانية في دمشق بعدما كانت أُقفلت خلال الأحداث الأخيرة، «أهمية التقيد بالاجراءات المتخذة لوقف النار وضمان استمراريتها، ولا سيما التنفيذ الكامل للقرار 1701»، موضحاً «أن ميتسوتاكيس عبّر عن استعداد اليونان للعمل على تأمين احتياجات الجيش اللبناني وفق لوائح مفصلة».