تشعل المعالجات الرقمية (أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية) العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، في وقت تشتد فيه المنافسة بين القوتين العظميين في مجال التكنولوجيا، حيث يتخذ كل طرف إجراءات لمنع الآخر من الهيمنة، وهو ما بات يعرف بـ “حرب الرقائق”.
وذكرت صحيفة “الغارديان” في تقرير نشر، الأربعاء، أنه في إطار “حروب الرقائق” أصبحت أشباه الموصلات نقطة اشتعال في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين. وقالت إن القتال من أجل التكنولوجيا بات أكثر أهمية في القرن 21، وهو مصدر رئيسي للعداء بين القوتين العظميين في العالم.
وستتوجه وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، إلى بكين في محاولة لترسيخ العلاقات الاقتصادية، وسيكون على رأس جدول الأعمال كيفية التعامل مع حرب الرقائق المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة، وفقا للصحيفة.
وتزور يلين الصين من الخميس إلى الأحد حيث تجتمع مع مسؤولين صينيين، على ما أعلنت الوزارة، الاثنين.
وخلال زيارتها بكين، تبحث وزيرة الخزانة مع أعضاء في الحكومة في أهمية “أن يدير البلدان علاقتهما بطريقة مسؤولة، بوصفهما الاقتصادين الرائدين في العالم”، حسب وزارة الخزانة.
كذلك، تعتزم يلين التشديد على ضرورة “التواصل مباشرة بشأن مجالات الاهتمام والعمل على مواجهة التحديات العالمية”.
وتدهورت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين البلدين تدريجيا منذ عهد الرئيس الجمهوري السابق، دونالد ترامب، وفقا لفرانس برس.
وفي نوفمبر الماضي، التقى الرئيس الأميركي، جو بايدن، بنظيره الصيني، شي جين بينغ، للمرة الأولى في محاولة لتخفيف التوتر.
وفي منتصف يونيو، توجه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى بكين حيث استقبله الرئيس الصيني، وهو لقاء فُسّر على أنه تقدم دبلوماسي.
لكن خلال تجمع في إطار حملته في كاليفورنيا في نهاية يونيو الماضي، وصف بايدن نظيره الصيني بأنه “دكتاتور”، في تصريح اعتبرته بكين “استفزازا”.
وفرضت إدارة بايدن العام الماضي قيودا على تصدير أشباه الموصلات الأميركية ومكونات التكنولوجيا إلى الصين. وقبل ذلك، كانت قد أبقت على رسوم جمركية فرضها ترامب على منتجات تصدرها الصين إلى الولايات المتحدة.
منافسة شرسة
وعلى الرغم من المبادرات الدبلوماسية من كلا الجانبين، فإن المنافسة في التكنولوجيا المتقدمة بين القوتين العظميين لا تظهر أي علامة على التراجع، وفقا للصحيفة.
والاثنين الماضي، أظهرت بكين “نبرة معادية” لرحلة يلين، حيث قررت فرض قيود على تصدير اثنين من المعادن التي تقول الولايات المتحدة إنها ضرورية لإنتاج أشباه الموصلات وغيرها من التقنيات المتقدمة.
وقالت صحيفة “غلوبال تايمز” الحكومية الصينية، الأربعاء: “لا يوجد سبب يدعو الصين لمواصلة استنفاد مواردها المعدنية الخاصة، سوى منعها من متابعة التطور التكنولوجي”.
وأدى تحرك الصين لتقييد صادرات بعض المعادن شائعة الاستخدام في إنتاج أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية والصناعات المتقدمة تقنيا إلى تصعيد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة وقد تتسبب في تفاقم الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.
وتسارع الشركات للرد على الأخبار المفاجئة التي أعلنت، الاثنين. وقالت شركة أميركية منتجة لرقائق أشباه الموصلات إنها تقدمت بطلب للحصول على تصاريح تصدير لطمأنة المستثمرين. وقال منتج للجرمانيوم في الصين لرويترز إن الاستفسارات من الخارج والأسعار ارتفعت بين عشية وضحاها.
وقالت وزارة التجارة الصينية إنها ستسيطر اعتبارا من أول أغسطس على صادرات ثمانية منتجات من الجاليوم وستة منتجات من الجرمانيوم لحماية أمنها القومي ومصالحها، في خطوة اعتبرها محللون ردا على جهود واشنطن المتصاعدة للحد من التقدم التكنولوجي للصين.
وقال بيتر آركيل، رئيس اتحاد الصين العالمي للتعدين “ضربت الصين قيود التجارة الأميركية في موضع مؤلم”.
وأضاف “الجاليوم والجرمانيوم مجرد نوعين من المعادن الثانوية لكن المهمة جدا لنوع من منتجات التكنولوجيا، والصين هي المنتج المهيمن لمعظم هذه المعادن. والاقتراح بأن دولة أخرى قد تحل محل الصين في المدى القصير أو حتى على المدى المتوسط ضرب من الخيال”.
وتأتي القيود التي تفرضها الصين في الوقت الذي تدرس فيه واشنطن فرض قيود جديدة على تصدير الرقائق الدقيقة المتقدمة تقنيا إلى الصين، بعد سلسلة من القيود في السنوات القليلة الماضية.
ومن المتوقع أيضا أن تفرض الولايات المتحدة وهولندا قيودا أخرى على بيع معدات إنتاج الرقائق لشركات تصنيع الرقائق الصينية هذا الصيف ضمن جهود تهدف إلى منع استخدام الجيش الصيني لتقنيتهما.
وكان آخر رد من بكين على الضغط الأميركي على الرقائق في مايو حين منعت بعض القطاعات المحلية من شراء منتجات من شركة ميكرون الأميركية لتصنيع رقائق الذاكرة.
وتأتي هذه الإجراءات في وقت يعتقد أن إدارة بايدن تستعد فيه لتوسيع قيودها الخاصة على بيع الرقائق الدقيقة المتقدمة إلى الصين، وفقا للصحيفة.
ما الذي يقلق الولايات المتحدة؟
وتتمحور مخاوف واشنطن في أن يتفوق جيش التحرير الشعبي الصيني على الجيش الأميركي من حيث القوة الكلية، وفي أن يتم استخدام التكنولوجيا الأميركية للقيام بذلك.
وأمر شي جين بينغ جيش التحرير الشعبي بأن يصبح جيشا من “الطراز العالمي” بحلول عام 2049، الذكرى المئوية لحكم الحزب الشيوعي الصيني. ويتضمن جزء كبير من ذلك تطوير أسلحة مستقلة، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، واستخدام الذكاء الاصطناعي (AI) في عدة مجالات، بما في ذلك الحرب الإلكترونية.
ومن غير الواضح مدى قرب الصين من تحقيق هذا الهدف. ووفقا للتقرير السنوي لوزارة الدفاع الأميركية حول القوة العسكرية للصين، فإن جيش التحرير الشعبى الصينى “يسعى وراء قدرات قتالية من الجيل التالي (…) من خلال الاستخدام الموسع للذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة الأخرى في كل مستوى من مستويات الحرب”.
ولكن في حين أن الصين رائدة عالميا في بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل التعرف على الوجه، فإن صناعتها المحلية ليست قادرة بعد على إنتاج أشباه الموصلات الأكثر تقدما التي تدعم هذه التقنيات. لذلك تعتمد الشركات الصينية والجيش على الواردات للحصول على الرقائق المتقدمة، وفقا للصحيفة.
إجراءات أميركية
وفي 27 يونيو الماضي، أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” بأن إدارة بايدن تدرس فرض قيود جديدة على صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين، وسط مخاوف متزايدة بشأن إمكانية وصول التكنولوجيا المتقدمة إلى منافسي الولايات المتحدة.
وبحسب ما نقلت الصحيفة الأميركية عن مصادر لم تكشف هويتها، فإن وزارة التجارة الأميركية قد تتحرك في يوليو لإيقاف شحنات الرقائق الإلكترونية التي تصنعها شركة “أنفيديا” الأميركية وغيرها من صانعي الرقائق للعملاء في الصين والدول الأخرى ذات الاهتمام من دون الحصول على ترخيص.
ولم ترد وزارة التجارة الأميركية على الفور على طلب صحيفة وول ستريت جورنال للتعليق، فيما رفضت شركة أنفيديا التعليق.
وتدرس الإدارة الأميركية أيضا تقييد تأجير الخدمات السحابية لشركات الذكاء الاصطناعي الصينية، التي استخدمت مثل هذه الترتيبات للالتفاف حول حظر التصدير على الرقائق المتقدمة، كما يقول بعض الأشخاص المطلعين على المناقشات.
وفي العام الماضي، فرضت إدارة بايدن قيودا على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين مبررة ذلك بوجود “تهديد كبير للأمن القومي”.
وتطلب واشنطن من شركات صينية الحصول على ترخيص من أجل الاستفادة من هذه التكنولوجيا الأميركية.
وفي أكتوبر عام 2022، اعتبر الرئيس الأميركي خلال افتتاحه موقع مصنع لأشباه الموصلات بولاية أوهايو، أن تصنيع هذه المكونات الإلكترونية هو مسألة “أمن قومي”، لا سيما في مواجهة الطموحات الصينية.
في المقابل، أثارت الإجراءات الأميركية غضب الصين بتقييد صادرات الرقائق الإلكترونية، لكن بايدن دافع عن قرارات إدارته.
وقال بايدن “إنها تبني جيشها، ولذلك أوضحت أنني لست مستعدا للتجارة بمواد معينة مع الصين”.
وفي أكتوبر، فرضت إدارة بايدن مجموعة شاملة من ضوابط التصدير، تستهدف وصول الصين إلى أشباه الموصلات الأميركية المنشأ والمنتجات ذات الصلة. ولا تستطيع الشركات والأفراد في الصين الآن شراء الرقائق المتقدمة وتكنولوجيا صناعة الرقائق من الموردين الأميركيين دون حصول البائع على ترخيص محدد من حكومة الولايات المتحدة، وفقا للغارديان.
وعززت الولايات المتحدة هذه الضوابط في يناير الماضي، من خلال إقناع هولندا واليابان بالحد من صادرات التكنولوجيا المستخدمة في إنتاج الرقائق، وتم اختيار كلا البلدين لأنهما موطن لتقنيات تصنيع الرقائق الأكثر تقدما في العالم، مثل شركة (ASML)، وفقا للصحيفة.
صناعة ضخمة وحيوية
وتعد المعالجات الرقمية قطعا تكنولوجية صغيرة تعمل على تشغيل الأجهزة الإلكترونية من أفران الميكرويف إلى الأسلحة العسكرية.
وتبلغ قيمة هذه الصناعة أكثر من 580 مليار دولار، لكن هذا الرقم لا يعكس أهمية هذه الرقائق بالنسبة للاقتصاد العالمي، حيث يدعم وجودها ما قيمته تريليونات من الدولارات من البضائع والعمليات، وبدونها سيتوقف الاقتصاد العالمي.
ولذلك، بحسب تقرير نشرته “الغارديان” في مايو الماضي، تعد هذه القضية مصدر قلق للكثيرين على اعتبار أن أكثر من 90 في المئة من أشباه الموصلات في العالم مصنوعة بالمكان الذي يعتقد العديد من المسؤولين الأميركيين أنه يمكن أن يكون موقع الصراع العالمي التالي: تايوان.
وفي حال غزو الصين لتايوان، سيشهد العالم تعطلا في إمدادات أشباه الموصلات بشكل كبير.
وتعتبر بكين تايوان مقاطعة لم تنجح بعد في إعادة ضمها لباقي أراضيها منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية عام 1949. وتسعى الصين إلى توحيد الجزيرة بالقوة إذا لزم الأمر.
وتدهورت العلاقات بين بكين وتايبيه، التي كانت في أدنى مستوياتها منذ وصول شي جين بينغ إلى السلطة قبل أكثر من عقد، وفي السنوات الأخيرة كثفت الصين توغلاتها العسكرية حول الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي.
وبحسب أسوشيتد برس، فإن الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تعمل على الحد من وصول الصين إلى صناعة الرقائق المتقدمة وغيرها من التقنيات التي تقول إنها قد تستخدم في صناعة الأسلحة، في وقت هددت فيه حكومة الرئيس شي بمهاجمة تايوان، واتخذت موقفا أكثر صرامة تجاه اليابان والدول المجاورة الأخرى.
وارتفع عدد الشركات المصنعة للرقائق الإلكترونية في الصين من حوالي 1300 عام 2011 إلى 22800 شركة بحلول عام 2020.
ومع ذلك، فإن هذا النمو الهائل تركز على الشركات التي تصنع رقائق أكبر حجما وأقل تقدما من الناحية التكنولوجية.
وتشير التقديرات إلى أن الصين بعيدة كل البعد عن هدفها المتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في أشباه الموصلات بنسبة 70 في المئة بحلول عام 2025.