منذ انطلاق حرب غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، خرجت أصوات كثيرة، لسياسيين ومتابعين، تلوم إيران على أنها لم تنخرط في الحرب بوجه إسرائيل، على رغم أنها لطالما أعلنت العداء لها وتوعدت بـ “سحقها”، وتم اتهامها بأنها “خذلت” شعاراً رفعته في يوم من الأيام وهو “وحدة الساحات”، وتنصلت منه.
في المواقف، وعند اندلاع الحرب، قالتها طهران بكل صراحة إنها ليست ضالعة في هجوم “حماس” الذي أدى إلى مقتل وجرح وأسر مئات الإسرائيليين، وهو ما أعلنته بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في التاسع من أكتوبر، وقالت “ندعم فلسطين على نحو لا يتزعزع، لكننا لا نشارك في الرد الفلسطيني، لأن فلسطين فقط هي التي تتولى ذلك بنفسها”.
ثم أتى كلام الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله في السياق نفسه، نافياً أن يكون الحزب أو أي طرف آخر على علم مسبق بعملية “حماس”، مستدركاً عدم علمه بأمر العملية بإطلاقه شعاراً آخر تمثل بـ”جبهات المساندة” أو الإسناد أو “المشاغلة”، وذلك عبر فتح جبهة الحدود اللبنانية الجنوبية. ومن ثم علقت جماعة كتائب “حزب الله” العراقية، وبعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها، عملياتها العسكرية والأمنية ضد القوات الأميركية بهدف “منع أي إحراج للحكومة العراقية”، وفق بيانها.
مجريات حرب غزة فككت الجبهات
“وحدة الساحات”، هو شعار أطلقه “محور الممانعة” بعد معركة “سيف القدس” كما أسمتها “حماس” أو “حارس الأسوار” كما أسمتها إسرائيل، في مايو (أيار) 2021. ووفقاً لتفنيد “الممانعة” أن تلك المعركة أعادت ترابط ووحدة الجبهات من غزة إلى القدس والضفة الغربية، والأراضي المحتلة عام 1948، وصولاً إلى سوريا ولبنان وإيران واليمن والعراق.
النظام الإيراني لطالما أصر على رفع شعار “وحدة الجبهات” لكن مجريات الحرب في غزة، وما تبعها من تصعيد من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، دفع بطهران إلى التراجع ونفي ضلوعها في الأحداث، وصولاً إلى كلام وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان من العاصمة اللبنانية بيروت، فبراير (شباط) الماضي، الذي قال فيه “نتطلع إلى السلام والاستقرار في المنطقة ويجب بذل الجهود لإنهاء الحرب على غزة وإزالة خطر توسيع نطاق الحرب في المنطقة”، مشدداً على ضرورة الذهاب إلى حل سياسي، وداعياً الطرفين بضرورة عدم التعويل على المسار العسكري.
وبعد سلسلة الغارات التي شنتها القوات الأميركية على مواقع لميليشيات تابعة لإيران في سوريا والعراق واليمن، اعتبر مراقبون أن ذلك جاء ليرسي معادلة جديدة تقوم على تفكيك الجبهات الإيرانية، وتقليص قدرات تلك الميليشيات، استناداً إلى مؤشرات عدة، منها، أنه أعادت الولايات المتحدة تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، بعد أن كانت قد أزالت الجماعة من قائمة الإرهاب، كما وإعلانها عن تشكيل تحالف دولي للتصدي لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر تحت مسمى “المبادرة الأمنية المتعددة الجنسيات”، والتي تضم 10 بلدان من بينها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
وفي التصعيد الأميركي أيضاً، أعلن الرئيس جو بايدن وبعد الهجوم الذي نفذته طائرات من دون طيار على قاعدة عسكرية أميركية تُعرف بـ “البرج 22” في منطقة الركبان بمديرية الرويشد، شمال شرقي الأردن، فبراير الماضي، وأسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين، أن “ردنا بدأ اليوم، وسيستمر في الأوقات والأماكن التي نختارها”.
وجاء في بيان القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط “سنتكوم”، حينها، أن القوات ضربت أكثر من 85 هدفاً في العراق وسوريا بينها مراكز قيادة وتحكم واستخبارات وكذلك مرافق لتخزين الصواريخ والمسيرات. وقال البنتاغون إن هذه المواقع “مكنت من شن هجمات ضد القوات الأميركية وقوات التحالف”. فيما كشفت تقارير صحافية أن الهجمات الأميركية “ضربت عصباً في هيكل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، ودمرت ذخيرة كانت تجمع على مدار سنوات”.
ماذا تبقى من شعار “وحدة الساحات”؟
وبعد كل هذه المعطيات والمواقف، هل لا يزال شعار “وحدة الجبهات” صامداً أم دخل التاريخ كشعارات سابقة راجت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، مثل “جبهة الصمود والتصدي”، و”الصراع العربي- الإسرائيلي”، و”وحدة المسار والمصير”؟.
يتوقف العديد من الكتاب والمراقبين على الموقف الإيراني من التنصل من عملية “حماس” في السابع من أكتوبر ونفيها العلم بتوقيتها، ويعتبرون أن هذا الموقف هو حجر زاوية في رسم وتحديد ملامح رؤية ومعادلة جديدة قد تتوضح في المرحلة المقبلة، وهي أن إيران ستبدأ بالتخلي عما يعرف بـ “المقاومة الفلسطينية” في مقابل الدعم المعنوي أو اللفظي والكلامي.
يشير الكاتب والمحلل السياسي سمير سكاف إلى أن “هناك وحدة الساحات، ولكن بمعايير إيرانية وليس بمعايير حماس أو الجماهير المؤيدة لتلك الأخيرة، والتي تطلب أن يكون التدخل الإيراني دائماً، وبمستوى الرد الأخير على إسرائيل”. وتابع أنه “ما زالت إيران ملتزمة بقواعد اشتباك، وعدم التورط بحرب إقليمية شاملة، حيث أن الرد الإسرائيلي على الرد لم يستتبعه رد إيراني، مما يعني أن طهران لا تريد التصعيد أكثر، ولن يكون هناك تحرك جدي لـ “فيلق القدس” باتجاه غزة، بل أنه تكتفي بتحريك أذرعها في المنطقة، وبخاصة عبر لبنان.
وبرأي المحلل سكاف أن ذلك يعود بسبب تواجد الأساطيل الغربية، إن كان في البحر الأحمر أو المتوسط، والتي أسهمت بالحد من فعالية الرد الإيراني.
ويردف سكاف “أن شعار وحدة الساحات ضعف في اليمن والعراق على حد سواء، حيث يلاحظ انخفاض معدل إطلاق الصواريخ أو الهجمات إن كان باتجاه إسرائيل، أو الأساطيل الموجودة في باب المندب. فيما المواجهة اليوم تحصل من باب المساندة والمساعدة وتخفيف الضغط عن “حماس” من قبل “حزب الله” منفرداً، مما يعني أن شعار “وحدة الساحات” يطبق فقط على الجبهة الجنوبية للبنان.
يرد الإعلامي فادي أبو دية في حديث مع “اندبندنت عربية” على نظرية تفكك وحدة الساحات، معتبراً أن “مشروع المقاومة اليوم يقوى بوحدة الساحات طالما أن العدو مشترك هو إسرائيل والهدف واحد هو تحرير فلسطين”. ويسأل “لماذا لا تتجسد وحدة الساحات، ألم تساند اليمن والعراق و “حزب الله” غزة بوجه إسرائيل؟.
ويضيف “لماذا تشككون بقيام وحدة الساحات من جانب ولا تشككون أو تقلقون من وحدة الساحات من جانب إسرائيل؟ ألم تأتي 10 دول لتدافع عن إسرائيل؟ ألا يعد ذلك وحدة ساحات عند الكيان الإسرائيلي؟
ويؤكد الإعلامي فادي أبو دية “أن وحدة الساحات تزداد وتنسق في غرفة مشتركة في كل لحظة، وتتصرف وفق مقتضيات المصالح الوطنية لكل جهة، وفي حال اندلعت أي حرب شاملة، فإن إسرائيل تعلم تماماً، أنها ستواجه محور المقاومة في كل ساحاته”.
تمايز بالموقف السوري
على رغم أن أحداث الحرب المباشرة بين إسرائيل و”حماس” اقتصرت حتى الساعة جغرافياً على غزة، وتمددت مع “حزب الله” إلى جنوب لبنان وبقاعه، لكن سوريا كانت بشكل أو بآخر معنية.
إذ استهدفت تل أبيب قيادات إيرانية مهمة من الحرس الثوري في سوريا خلال الأشهر الماضية.
ويعتبر الهجوم الذي طاول مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، الأول من أبريل (نيسان) الجاري، مفصلياً في تاريخ المواجهات بين إيران وإسرائيل، وفيه قتل قائد “قوة القدس” في لبنان وسوريا محمد رضا زاهدي، وهو من بين 18 جنرالاً وقيادياً إيرانياً بارزاً استهدفتهم إسرائيل في أشهر قليلة، أي منذ السابع من أكتوبر، وتتهم طهران تل أبيب بالوقوف خلف هذه الاستهدافات.
لكن تبقى النقطة المفصلية في هذا الملف الاتهامات التي طاولت أجهزة الاستخبارات السورية بأنها ضالعة في هذه العمليات أو بالحد الأدنى لم تبلغ عنها بهدف منع حدوثها.
في الرابع من أبريل، أي بعد ثلاثة أيام من استهداف القنصلية، خرجت صحف عربية لتنقل عن مصدر في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أن الأجهزة الأمنية الإيرانية رفعت تقريراً للمجلس بشأن احتمال ضلوع السلطات السورية في اغتيالات كبار قادة الحرس في سوريا، متحدثاً عن خروقات وتسريبات أمنية أدت إلى عمليات الاغتيال هذه بغطاء سياسي وأمني على مستوى عالٍ، في إشارة إلى السلطات السورية.
وكالة “رويترز” نقلت بدورها في فبراير (شباط) الماضي، عن ثلاثة مصادر، قولها إن الحرس الثوري أعرب عن مخاوفه للنظام السوري، من أن “تسرب المعلومات من داخل قوات الأمن السورية لعب دوراً في الضربات القاتلة الأخيرة”. وقال مصدر آخر مطلع على العمليات الإيرانية في سوريا، إن الضربات الإسرائيلية الدقيقة دفعت الحرس الثوري إلى “نقل مواقع العمليات ومساكن الضباط، وسط مخاوف من حدوث خرق استخباراتي”.
وليس بعيداً من الشأن الأمني، كان لافتاً غياب رئيس النظام السوري بشار الأسد عن المشاركة في إحياء “يوم القدس” والذي تحدث فيه كل من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ونصرالله، ورئيس المكتب السياسي لـ “حماس” إسماعيل هنية، ومسؤول جماعة الحوثيين في اليمن عبد الملك الحوثي، وشخصية من العراق، فيما الهدف الأساسي من الاحتفالية كان التأكيد على شعار “وحدة الجبهات”.
وهذا ما أثار التساؤلات حول موقف سوريا وإذا ما كانت قد بدأت تنأى بنفسها عن الحرب الدائرة في غزة، ضمن التمايز عن مواقف حلف “الممانعة”، ما يعني بداية تغيير في المسار؟.
كما كان لافتاً في الفترة نفسها انتشار صور للأسد وعائلته، وهم يحتفلون بشكل طبيعي بعيد الفطر، إلى التواجد في أحياء دمشق القديمة… فيما كان التوتر على أشده بين تل أبيب وطهران. صور قُرأت على رسائل في أكثر من اتجاه، لعل أبرزها أن الحياة ماضية بشكل طبيعي في دمشق وأن الأخيرة غير معنية في الصراع القائم.
“سوريا ترى مصلحتها في الحضن العربي”
في هذا الإطار يقول المستشار القانوني في المفوضية الأوروبية الأكاديمي محي الدين الشحيمي في حديث مع “اندبندنت عربية”، “ربما يقرأ الإيراني هذه التحولات بعناية، حيث بدأ السوري بالمفاضلة والإقرار بأن مصلحته هي في دفء الحضن العربي. وتتشابه هذه المرحلة مع الحقبة المصرية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، عندما اتخذ قرار إخراج الخبراء السوفيات من مصر، وتحوله من الحضن السوفياتي إلى الحضن الغربي والتحالف الأميركي”.
ويستدرك المستشار القانوني الشحيمي بالقول إنه “من المبكر أو لعله من الاستباقي التكلم عن التموضع السوري وفسخ دمشق لمعادلة وحدة الساحات، لكن في الأمر إشارات عدة تحمل في طياتها دلالات استشرافية ليس أولها رد فعلها، وطريقة تعاطيها مع الحرب في قطاع غزة، وعبر مسلسل استهداف قادة الحرس الثوري على أرضها، كل تلك الأمور تدل على أن ما هو قادم سيكون مختلفاً، ومع انتهاجها سياسة النأي بالنفس عن الحرب وسكون جغرافيتها، إضافة إلى سلوكها الحياد لنظامها، وكأنها غسلت يدها من ما يدور ضمن محور وحدة الساحات في العمق، فيما الأمور الباقية هي الشكلية فقط”.
ويتابع الشحيمي أن “إيران تشك كثيراً في غطاء سوريا ونشاطها، لكن لا يمكنها الاستغناء عنها أو تعويضها لأسباب عدة، جغرافية، وسياسية ولوجستية وأمنية. كما أنها تحقق في تواطؤ محتمل من الجانب السوري. يمكن أن يكون عاملاً مسهّلاً بقصد أو عن خرق للوصول إلى الأهداف الإيرانية المثيرة والنوعية”. ويتابع أنه “من الممكن أن يكونوا كذلك قرابين إيرانية نفيسة جداً على درب جلجلة المفاوضات والتسوية المنتظرة، وعلى مذبح آلهة المفاوضات الكبرى مع انطلاق فرضية إيران الاستراتيجية في عدم حاجتها في مرحلتها الجديدة إلى رموز وقيادات مرحلتها القديمة والحالية”.
وعن الدور السوري، يشير أبو دية من جانبه إلى أن “سوريا التي احتضنت كل جهات المقاومة من اليمني إلى الفلسطيني إلى اللبناني والعراقي، لا يمكنها أن تنسحب، بل هي في صلب المعادلة، ربما تغيرت ظروفها وقدراتها بسبب استنزافها وحصارها على مدار السنوات الماضية إلا أنها لا تتخلى عن استراتيجيتها وعمقها، وامتدادها الجيوسياسي”.
من جانبه، يقول المحلل السياسي سمير سكاف إن “سوريا من الأساس خارج المواجهة وغير موجودة ضمن ما يعرف بمبدأ وحدة الساحات. حيث أن القصف يطاول دمشق ولكن الرد يأتي عبر الحدود الجنوبية للبنان. ولم تكن هناك أي مواجهة مباشرة بين تل أبيب ودمشق على الإطلاق”.