يطوي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نهاية يوليو الجاري، 30 عاماً، قضى أكثر من ثلثها مكرَّماً وصاحب الفضل على الاقتصاد وبيت المال اللبناني، وأمضى الأعوام الأخيرة منها مكروهاً من غالبية اللبنانيين الذين أصابتْهم سهام الانهيار المالي، وملاحَقاً من دولٍ أوروبية.
رَجُلُ المال الذي جاء به الرئيس رفيق الحريري على «طبَق من ذهب»، يغادر من دون أن يَعرف اللبنانيون حقيقةَ مصير الذهب اللبناني، رغم كل تأكيدات الحاكم بأنه لن يُمسّ، ومن دون أي تكهناتٍ حول سقفٍ لانهيار الليرة، ومن دون أي توقعاتٍ إيجابية لمستقبل لبنان المالي، ومع «أنفاس محبوسة» حيال مرحلة ما بعد 31 يوليو وأي إدارةٍ ستكون لـ «كرة النار» النقدية وهل يتولاها «رباعي نواب الحاكم» بعد استقالاتٍ تضمن توزيع المسؤوليات بينهم، أم يقودها النائب الأول وسيم منصوري (الشيعي) بـ «انتقال للسلطة» وفق القانون من أصيل إلى وكيل بانتظار انتهاء الشغور الرئاسي وتعيين خَلَف لمَن يعرف كل خفايا «صندوق باندورا» المالي – النقدي منذ 3 عقود؟
لقابض على «مفتاح» المركزي لأعوام وأعوام وعهود، المتوَّج بجوائز عالمية ولبنانية والمكرَّم في جامعات لبنان وصروحه العلمية والدينية، تَفَوَّقَ بالتمديد المتواصل له على رئيسيْ الجمهورية الممدَّدة ولايتهما، إلياس الهراوي واميل لحود، إذ تم التجديد له أربع مرات بموافقة الطبقة السياسية أجمعها.
«استوطن» المركزي
ظل 30 عاماً في واجهةِ الحدَث المالي والاقتصادي، ولم يسبق لمصرفيّ أن حظي بهذه الفترة الزمنية من الحضور على الساحة السياسية، ولا أمْسكَ حاكمٌ بـ «المركزي» لمدةٍ هي عملياً «نصف عمره»، إذ أن مصرف لبنان تأسس في الأولى من أغسطس 1963.
رجال السياسة من كميل شمعون وسليمان فرنجية وبيار الجميل، مروراً بريمون اده ورشيد كرامي وصائب سلام وكمال جنبلاط، وصولاً إلى قيادات ما بعد الحرب، من ميشال عون وسمير جعجع ووليد جنبلاط إلى نبيه بري وسواه، حفظوا موقعهم السياسي عن طريق «تَداوُل السلطة» بالانتخاب للعبور الدائم إلى البرلمان والحكومات والرئاسات وقيادة الأحزاب.
وقلّة منهم حفظتْ موقعَها بمفردها وبالتعيين غير المشروط، وبين هؤلاء سلامة الذي «استوطن» المركزي بفعل الحَبْكات المالية والسياسية، فتداخلتْ فيها شطارة الآتي من ميريل لينش مع مشروع الرئيس رفيق الحريري ومن ثم تَضافُر القوى السياسية، والمصرفية في شكل خاص، حوله بعد عام 2005 أي اغتيال الحريري، فكانت الخدماتُ المتبادَلة بين طرفيْن أحدهما سلامة لوحده، فيما الطرف الثاني يضمّ مجموعة من المستفيدين في لبنان وخارجه وحتى سورية، من سياسيين ومصرفيين وأمنيين واقتصاديين ورجال أعمال وإعلام.
الحالِمُ برئاسة الجمهورية منذ أن تربّع على عرش «بيت مال» اللبنانيين غالباً ما تطلَّع للانتقال من المصرف المركزي إلى القصر الجمهوري، هو الذي تردد اسمه مرات مرشّحاً من الصف الأول.
«الفتى المدلّل»
مارونيّ بالانتماء المذهبي والطائفي، لكنه ليس ابن المارونية السياسية، وتحوّل بعد 2005 الفتى المدلّل لدى بعض أركان هذه الطبقة السياسية والدينية التي احتضنتْه وحاولتْ تسويقَه إلى أن تَكَسَّرَتْ أحلام الرئاسة والحاكمية وهو الذي تصرّف وكأنه ضابط الإيقاع الذي لا غنى عنه.
لم يسبق لحاكم مركزيّ أن حظي باهتمامٍ إعلامي كالذي ناله، وها هو يطوي ولايتَه الأخيرة باهتمامٍ مماثل، من دون أن يَترك سمعةً طيبةً كالتي خلّفها أسلافه في تاريخ لبنان الحديث، من إلياس سركيس (عُيّن حاكماً بين 1967 و1976) إلى إدمون نعيم (1985 – 1991) وميشال الخوري (1978 – 1985 ثم من 1991 إلى 1993).
سركيس الشهابيّ الملتزم أخلاقاً وعِلماً، أدار مصرف لبنان (بعد أول حكّامه فيليب تقلا)، كما أراد اللواء فؤاد شهاب من الإدارة اللبنانية التي أرسى قواعدَها في عهده، رغم الشوائب التي ألحقها به المكتب الثاني (الاستخبارات) وممارساته.
وكان سركيس الذي اختير عام 1970 في مواجهةٍ رئاسية ضدّ سليمان فرنجية، ومن ثم انتُخب رئيساً خلَفاً له، يتمتّع بحس إداري تَمَرَّسَ به منذ أن كان مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية في عهد فؤاد شهاب، وتَدَرَّجَ لاحقاً في عهد شارل حلو وفرنجية ليكون رئيساً للمصرف المركزي لمدة تسع سنوات.
وقد لا يكون الوضع المالي حينها في الحدة التي يعيشها لبنان حالياً، لكن سركيس عَبَرَ بالوضع النقدي من مرحلة الشهابية إلى مرحلة خصومها أي مع عهد فرنجية بما أمكن من استقرارٍ مالي ونقدي، ومساهماتٍ غربية في المصارف اللبنانية، قبل أن تنفجر الحرب عام 1975.
وفي كل ذلك ظلّ أداؤه بلا شائبة، وحين يُكتب عن الرئيس الراحل لا يمكن إلا الإشادة بنزاهته التي جعلتْ منه حاكماً «شهابياً» بالمعنى الإداري، ومن ثم رئيساً للجمهورية.
حقبة الحاكم إدمون نعيم مختلفة جذرياً عن مسيرة سركيس. لكن يُشهد لكليهما قوة الثبات في موقعهما وعدم المساومة.
نعيم الاشتراكيّ النزْعة في بداياته السياسية، والمفكّر والحقوقي، صار حاكماً للمصرف المركزي في أخطر مرحلة أمنية عاشها لبنان. لكنه عرف كيف يضع حداً بين ممالأة السلطة وبين موقعه الحساس في حقبةِ الانقسامات الطائفية.
موقع عرينه في المصرف المركزي الواقع في منطقة الحمراء غربيّ العاصمة وكما كان يُعرف آنذاك بـ «بيروت الغربية» لم يُثْنِ نعيم عن الحضور إليه وممارسة سلطته والوقوف ضد أي أمر غير قانوني.
وهو ظل مقيماً في المصرف المركزي الذي تعرَّض للقصف ولو خلْف أكياس الرمل، وعانى من حملات ضدّه في ظل انقسام البلاد، وفي المقابل حظي بسمعة طيبة في المحافظة على الاستقرار النقدي، وعلى ضبْط إيقاع المصارف.
ومع ذلك لم يَسْلَمْ في أول عهد الرئيس إلياس الهراوي من محاولة خطفه على يد مجموعة عسكرية تابعة لوزير الداخلية آنذاك إلياس الخازن، على خلفية رفضه تحويل أموال جوازات السفر لوزارة الداخلية.
وحين عُيِّن ابن رئيس الاستقلال بشارة الخوري حاكماً للمرة الأولى بعد سركيس أي بين 1978 و1985 لم يكن لدى أحد شك في أن الشيخ ميشال الخوري رجل مُناسِب في المكان المُناسِب، ولذا اختير مرة ثانية بين 1991 و1993 قبل أن يخلْفه سلامة.
وهناك مَثَلٌ لبناني قديم يتحدث عن عائلات «عيْنها شبعانة»، فلا تمدّ يدها إلى مال الدولة والحرام، والخوري سليل بيتٍ سياسي يتمتع بثقافةٍ ورفاه وأناقة ونظافة الكفّ في السياسة والحُكْم والحياة اليومية.
حقوقيّ ومحامٍ مازال الخبراء الماليون يتحدثون عن إدارته للمصرف المركزي وتدخُّله مع المصارف وسوق القطع لِما فيه مصلحة سياسة لبنان المالية وليس أصحاب المنافع المالية من سياسيين ومصرفيين.
ثلاثة نماذج في النزاهة والإدارة الرشيدة قدّمها المصرف المركزي على مدى أعوام قبل الحرب وخلالها وبعدها بقليل.
«الصندوق الأسود»
أما سنواتُ السلم والرخاء ومن ثم الانقسام الأفقي بين اللبنانيين وانشطارهم بين «8 و14 مارس»، فحملت وجها آخر من وجوه اللعبة السياسية التي أتْقنها سلامة.
فهو تمكّن من أن يتجاوز انقسام ثورة الأرز و«8 مارس» والعقوبات الأميركية على «حزب الله» والعلاقة الجيّدة معه، وتمكّن من تطويع كل القوى المسيحية والإسلامية والسياسية والعسكرية والأمنية، ولابد أنه نجح في مكانٍ ما في اجتياز اختبار المرور بين الألغام الكثيفة.
وهو يغادر حاملاً دفتره الحاوي أسرار شخصياتٍ من كل الأطياف والاتجاهات و«الصندوق الأسود» لتحطُّم الهيكل المالي – النقدي فوق رؤوس الجميع، علّه يحميه من غدرات الزمن. لكن بعد 31 يوليو… يوم آخَر.