يشكل انعدامُ الجاذبية الذي يستوطن لبنان بفعل زلازله السياسية – المالية والاقتصادية ثقباً أسود يكاد أن يبتلع ما بقي من استقرار اجتماعي وصحي وتربوي وتعليمي.
فمع الاستعداد للإقلاع الشاقّ والصعب والمرهق للعام الدراسي الجديد تتعاظم التحديات أمام المدرسة الحكومية (الرسمية) ما يجعل السنة الدراسية في خطرٍ لم تبدده تماماً النيات الحسنة لوزير التربية والتعليم العالي القاضي عباس الحلبي ووعوده.
فالتحدياتُ مع «أول غيث» المشوار إلى المدرسة عاتيةٌ، وهي على ضخامة حجمها لا تشكل سوى ما ظهر من جبل الجليد فيما الجزء الأكبر منه مازال خفياً عن أنظار الأهل والتلامذة والمعلّمين… يعلم به المسؤولون لكنهم حتى اللحظة يَبدون غير قادرين على مواجهة أثقاله وانعكاساته على جيل بأكمله.
رواتبُ الأساتذة والوعود التي لم يتم الوفاء بها بعد، رسومُ التسجيل التي تضاعفت 22 مرة ووصلتْ الى ستة ملايين ليرة بعدما كانت في السابق لا تتخطى 270 ألف ليرة، صناديق المدارس الخاوية، دَمْجُ الطلبة السوريين في المدارس الحكومية اللبنانية وما يحمله ذلك من أخطار، تَدَخُّلُ مفوضية اللاجئين واليونيسيف والجمعيات الدولية على أنواعها في صلب العملية التربوية وفرْض شروطها على المدارس والمسؤولين، الافتقارُ إلى التجهيزات العملية والتقنية والتربوية في الكثير من المدارس، ونقص الماء والكهرباء والتدفئة في أعداد كبيرة منها في المناطق ولا سيما النائية، التهديدُ بالإضراب والامتناع عن التدريس… هذا غيضٌ من فيض مشكلات التعليم الحكومي في لبنان.
ورغم تطمينات وزير التربية عباس الحلبي، بأنه ضامِنٌ للسنة الدراسية وحريصٌ على عدم نزوح الطلبة من المدرسة الرسمية «يبدو الوضعُ غير مُطَمْئنٍ إذ ان تسجيل الطلبة الذي بدأ في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر تتخلله عثرات كثيرة» وفق ما شرحته لـ «الراي» نورما بوشي مديرة مدرسة رسمية متوسطة في مدينة زحلة البقاعية: «مازال التسجيل خجولاً فالأهل متخوّفون من إضراباتِ الأساتذة التي يمكن أن تحدث كما حصل خلال العام الماضي ووضَع السنة الدراسية في مهب الريح. بات الأهالي يفضّلون إرسال أبنائهم الى المدارس الخاصة نصف المجانية لضمان حصولهم على عام دراسي طبيعي. ووحدهم الأهل الذين لا يستطيعون دفع تكلفة هذه المدارس يقصدوننا، وسؤالهم الأول عن التعطيل والاضرابات».
أزمة ثقة
الأوضاع لا تبشّر بالخير، والأساتذة كما مديرو المدارس يؤكدون أنهم لا يثقون بالحكومة ويشكّكون بتعهدات وزير التربية، فالوعود كثيرة لكن الوفاء بها لم يسلك الطريق السليم. جهاد وهو أستاذ في إحدى المدارس الثانوية يقول لـ «الراي»: «راتبي يوازي 90 دولاراً كيف أعيش وألبي احتياجات عائلتي؟ صحيح أن الحكومة رفعتْ رواتب الأساتذة سبع مرات العام الماضي لكننا نقبض ثلاثة رواتب في أول الشهر وأربعة في أواخره وأحياناً كثيرة يتأخر الدفع ويكون ارتفاع الأسعار قد سبقنا. كنا نقبض الرواتب بالليرة على منصة صيرفة، واليوم توقفت صيرفة ما ساهم في انخفاض القيمة الفعلية للراتب. كذلك وُعدنا بالحصول على 300 دولار لمدة شهرين أي أكتوبر ونوفمبر لكن حتى الآن لم يُفرج عن هذه الأموال لأسباب تتعلق بوزارة المال».
وزير التربية عباس الحلبي اعترف بأن صناديق المدارس التي تضم أعداداً من الطلبة السوريين ممتلئة، فيما المدارس الرسمية الخالية من السوريين أو تضم أعداداً قليلة منهم فارغة وتعاني. وهذا ما تؤكده أرقام نُشرت وتحدثت عن أن«اليونيسيف» تدفع عن كل تلميذ سوري في «الرسمي» 140 دولاراً مخصّصة لصناديق هذه المدارس إضافة إلى 18 دولاراً لصندوق الأهل عن كل تلميذ لبناني، وهذا ما يجعل المدارس تتهافت على تسجيل الطلبة السوريين لملء صناديقها، وسط تقارير (صحيفة النهار) أشارت إلى أنه في آخر إحصاء للأولاد السوريين النازحين في عمر المدرسة بين 3 و17 سنة فإن عددهم اليوم يتجاوز 700 ألف، ويُتوقع أن يتم استقطاب نصفهم في المدارس أي نحو 350 ألفاً (بعدما كان العدد لا يتجاوز 267 ألفاً العام الماضي) وغالبيتهم في «الرسمي» حيث يُرتقب أن تتساوى نسبتهم مع اللبنانيين، علماً أن مجموعهم (في الرسمي والخاص) سيشكّل 35 في المئة من العدد الإجمالي لتلامذة لبنان.
وفي حين تحدثت التقارير نفسها في هذا السياق عن توقعاتٍ بأن عدد التلامذة السوريين (في الرسمي) سيرتفع السنة المقبلة إلى أكثر من 220 ألفاً، في دوامي بعد الظهر الذي يستوعب العدد الأكبر وقبل الظهر الذي يُنتظَر أن يرتفع عدد التلامذة السوريين فيه إلى 35 ألفاً – علماً أن الجهات المانحة تدفع بالدولار إلى الأساتذة الذين يتولون تدريسهم في دوام بعد الظهر – فإن اليونيسيف، التي تتولى مساعدة القطاع التربوي في لبنان لضمان تعليم اللبنانيين والسوريين على حد سواء، طالبت في بيان أصدرته أخيراً وقبل المؤتمر التربوي الأخير الذي عُقد في بيروت، الحكومةً اللبنانية بإيلاء الأولوية لإيجاد موارد لميزانية التعليم، لضمان فتح المدارس الرسمية أمام جميع الأطفال، لأنه لا يمكن أن يحلّ دعم اليونيسف مكان استثمار الحكومة اللبنانية في التعليم.
وتَعتمد الخطة التي وضعها وزير التربية على ضرورة توفير 150 مليون دولار لتأمين المصاريف التشغيلية للمدارس ورواتب الأساتذة، وقد أكد وزير المال يوسف خليل أن المبلغ سيؤمَّن من الحكومة ومن الهبات الدولية. وبالفعل أقر مجلس الوزراء سلفة بقيمة 5 آلاف مليار ليرة كدفعة أولى من المبلغ المطلوب، في الوقت الذي مازال يسعى لتأمين ما تبقى.
لكن هذه الخطة مازالت تلقى معارضة من الأساتذة الذين يطالبون بالحصول لا على 300 دولار بل على 600 ليتمكنوا من مجاراة التضخم وارتفاع الأسعار، كما يطالبون بأن تلتزم الحكومة بوعودها فلا تكون مجرد حبر على ورق أو يتم تقسيط المبالغ بحيث تفقد قيمتها الفعلية.
عدم الثقة بالحكومة اللبنانية لا يقتصر فقط على الأساتذة بل ينسحب على الجهات الدولية المانحة ومنظمة اليونيسيف التي لم تعد ترسل الأموال إلى وزارة التربية بل تحوّلها مباشرة الى صناديق المدارس في المناطق التربوية ليتم دفعها الى المدرّسين والموظفين كرواتب وبدلات إنتاجية وفق جداول يتم التأكد منها.
وكان النائب إيهاب حمادة قد أعلن صراحة أن الجهات المانحة أبلغت الحكومة أنها لن تدفع فلساً واحداً لتعليم اللبنانيين وعلى الدولة اللبنانية إيجاد التمويل من ميزانية الدولة.
صناديق فارغة
المدارس الرسمية الابتدائية والمتوسطة لا تستوفي أي رسم تسجيلٍ من طلبتها اللبنانيين وتنتظر مساعدات وزارة التربية، أما المدارس الثانوية فتستوفي رسوم تسجيل وصلت هذه السنة الى ستة ملايين.
ويقول مدير إحدى المدارس: و«الى جانب ما تدفعه الدولة تعتمد المدارس أيضاً على صناديق الأهل التي تساعد في تلبية بعض الاحتياجات خصوصاً لجهة دفع رواتب الاساتذة الذين نستعين بهم أو نتعاقد معهم لتأمين كادر مدرسي متكامل بفعل النقص الكبير في عدد الأساتذة.
لكن للأسف صناديق الأهل في غالبية المدارس فارغة نتيجة وضعهم المالي ومن هنا صعوبة الدفع للاساتذة المستعان بهم أو تنفيذ النشاطات المدرسية التي تساهم في تعزيز العملية التربوية. اعتمادنا بشكل كبير على الجمعيات الأجنبية التي تقدّم المساعدات وتعمل على تأهيل المدارس الرسمية ولولاها لكانت حالنا بالويل ولا سيما بالنسبة إلى المدارس الابتدائية والمتوسطة التي تقع في القرى والأطراف وقد لا تضم عدداً من الطلبة السوريين. وحتى المازوت هذه السنة جرى تأمينه من صندوق المدرسة بعد أن كانت وزارة التربية ترسله إلينا عبر شركات متعاقدة معها».
نقمة الأساتذة
رئيسة لجنة الأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي نسرين شاهين وصفت لـ «الراي» واقع السنة الدراسية بـ «الغامض». وقالت: «لا شيء واضحاً بعد بخصوص التقديمات لكن أحد لا يجرؤ على القول ان العام الدراسي لن ينطلق… الأكيد أن ثمة مراوغة من وزير التربية والمسؤولين ربما لتأمين دعم أكبر من الجهات المانحة.
ورغم أن مبلغ 5000 مليار الذي رصدته الحكومة لمختلف مراحل التعليم قد يساعد على دفع 300 دولار للكادر التعليمي فإنه لن يستمر لأكثر من نهاية العام وبعدها لا أحد يدري إن كان العام الدراسي سيستمر أم تعود إضرابات الأساتذة. حتى مبلغ 300 دولار ليس مضموناً وقد يكون أقل من ذلك بالنسبة إلى التعليم الأساسي فيما اساتذة الثانوي يطالبون بمبلغ 1000 دولار كراتب».
المشكلات كثيرة وفق شاهين وأبرزها «هجرة الأساتذة واضطرار المدارس لتغطية رواتب الأساتذة المتعاقدين من المبالغ الممنوحة لصناديق المدارس من أجل الكلفة التشغيلية، مع ترْك الحرية لمديري المدارس باختيار الأساتذة وفق قرار شخصي ومن دون معايير واضحة ما يعرض المستوى التعليمي للخطر».
وعلمت «الراي» أن نحو 3000 مدرّس تقدموا إما باستقالاتهم أو بطلبات استيداع او الحصول على إجازات غير مدفوعة تسمح لهم بالتغيب لمدة عام. وبهذا حدث نقص في عدد الأساتذة والاختصاصات ما أوجب الاستعانة بمدرّسين من خارج الملاك.
وكون الدولة اليوم ممتنعة عن أي توظيف بفعل قانون صدر قبل بضعة أعوام فإن المدارس باتت تتولى هذه المهمة من حسابها الخاص وتعاني في تأمين رواتب هؤلاء الأساتذة. من جهة أخرى أدى النقص في الجهاز التعلميي الى ضغط كبير على الأساتذة الموجودين بحيث اضطروا الى تأمين دوام عمل كامل بعدما تعودوا في الماضي على العمل لساعات أقل نتيجة وجود فائض في اساتذة التعليم الرسمي.
وتأتي المماطلة في دفع المستحقات لتعزز نقمة المدرّسين وقد صدر عن روابط أساتذة التعليم الرسمي بيان دعا الأساتذة والمعلمين إلى عدم الالتحاق بمدارسهم ومقاطعة الأعمال الإدارية والتحضيرية والتسجيل وحتى مقاطعة تسجيل السوريين. كما دعا البيان وزير التربية إلى إعلان تعليق التسجيل وتأجيل إطلاق العام الدراسي وعدم الدعوة إلى فتح المدارس، لا رسمية ولا خاصة إلى حين انتظام الأمور وانتظام قبض الرواتب والمتأخرات من المساعدات الموقتة (8 رواتب) وصولاً إلى تحقيق مداخيل المعلمين والأساتذة بما يلبّي حاجاتهم المعيشية. كما أجبرت وقفتهم الاعتراضية وزير التربية على التراجع عن قراراته بحسم رواتبهم أو نقلهم من مراكز عملهم الى مراكز أخرى.
ويوم أمس قامت مجموعة من الناشطين باقتحام مقر وزارة التربية وحاولت لقاء الوزير من دون جدوى، بعدما قالوا إنه تم الاشتراط عليهم الاجتماع به من دون هواتفهم الخلوية، وهم أكدوا أن تحركهم هو في إطار «معركة حماية التعليم الرسمي الذي يتعرّض للتدمير، وهو ركيزة أساسية في الأمن الاجتماعي، ومعركة حفظ حق الناس في التعليم الرسمي وحماية الأساتذة»، محذّرين من مخاطر «محاولة دمج الطلبة السوريين باللبنانيين».
هل من خطة خفية لدمج السوريين؟
في ظل هذا التخبط المالي والإداري والسياسي والكباش القائم بين الحكومة ووزارة التربية من جهة والأساتذة والجهات المانحة من جهة أخرى يبرز سؤال: مَن يسعى الى دمج الطلبة السوريين في لبنان وإلحاقهم بدوام مدرسي قبل الظهر كنظرائهم من اللبنانيين؟ هل يستوعب النظام التربوي اللبناني أعداد النازحين التي باتت في بعض المناطق مثل البقاع وعكار تفوق أعداد اللبنانيين؟ لمصلحة مَن يتم الحديث عن هذا الدمج بعدما تعالى الصراخ من «خطرٍ وجودي» يشكله تهافت النزوح على لبنان وبات تقريباً على كل شفة ولسان؟
«سينعكس سلباً على أوروبا لأنها الهدف الحقيقي»وزير العدل اللبناني يحذّر من «زحْف» النازحين السوريين
أعلن وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري الخوري، أن النازحين السوريين «يزحفون إلى لبنان بأعداد كبيرة وهم بذلك لم يعودوا لاجئين بل نازحين اقتصاديين»، محذراً من أن «الأمر سينعكس سلباً على أوروبا لأنها الهدف الحقيقي والمبطّن للنازحين أما لبنان فهو محطة بالنسبة لهم».
هذا الموقف أبلغه الخوري إلى نظيره الإيطالي كارلو نورديو الذي التقاه في روما حيث جرى البحث في عناوين عدة أبرزها ملف النزوح السوري ووضع القضاء في لبنان.
وتحدث الخوري عن «حدة وخطورة الاكتظاظ في السجون اللبنانية الذي يسبّبه زحف النازحين وتجاوزاتهم التي ترفع نسبة الجريمة وعدد السجناء»، لافتاً الى أن «البنية التحتية للسجون في لبنان لا تتحمل الاكتظاظ الناتج عن ارتفاع عدد المساجين».