بعيداً عن الكلام الشعبوي، وقريباً من التحليل العلمي لخلفيات هذا النشاط، الذي انقسم حوله اللبنانيون؛ فاعتبره «الحزب» ومؤيدوه، بأنه موجه إلى إسرائيل؛ واعتبره البعض الآخر بأنه موجه إلى اللبنانيين والعالم، وليس إلى إسرائيل. لذلك لا بد من إلقاء الضوء العلمي والعملي على النظريتين.
إنّ الكلام بأنّ هذا النشاط العسكري موجّهٌ إلى إسرائيل لمنعها من الإعتداء على لبنان، وذلك بإقامة توازنٍ ردعي معها؛ هو كلام «شعبوي» فارغٌ من أي معنى عسكري. فالعتاد الذي ظهر في ذلك النشاط، والبقعة «الكرمسية» التي شهدتها التحركات، والنشاطات التي رُصِدَت… وغيرها، لا تشكل توازن ردعٍ مع دولة تمتلك مئات الطائرات الحربية، وصولاً إلى امتلاك حوالى مئة رأس نووي… وزيادة على ذلك، إنّ هذه الدولة أقامت جداراً فاصلاً على حدودها مع لبنان؛ الأمر الذي يثبت أنها بنته للدفاع عن نفسها وليس للإعتداء على لبنان. وعلى اللبنانيين المتاجرين بالقضيتين اللبنانية والفلسطينية أن يدركوا، أنّ النصر على إسرائيل لا يبدأ بهكذا «عراضات» مسلحة؛ إنما هو يبدأ يوم يقرر سكان بلدة الغجر اللبنانية، تنظيم تظاهرة للعودة إلى كنف الدولة اللبنانية، وليس بإقامة تظاهرة لمنع الجيش الإسرائيلي من الخروج من بلدتهم ليبقوا تحت حكم دولة إسرائيل، عندما انسحبت هذه الأخيرة من لبنان عام 2006.
النصر على إسرائيل يبدأ أيها المنورون، يوم يعيش الإنسان في دويلة «حزب الله» بظروف أفضل مما يعيشه المواطن الإسرائيلي في إسرائيل. لذلك فالنشاط الأخير لـ»حزب الله» لم يستهدف إسرائيل، إنما استهدف مستويين: دولي وداخلي.
على المستوى الدولي، هو رسالة موجهة إلى الدبلوماسيتين الإقليمية والدولية، اللتين نشطتا مؤخراً لـ»صناعة» رئيس للجمهورية في لبنان. جاءت هذه الرسالة غداة اجتماع القادة العرب في مدينة جدة السعودية لإبلاغ المعنيين، عرباً وأجانب، بألّا يُجهدوا أنفسهم في البحث عن رئيس، لأنّ طريق بعبدا تمر حتماً في الضاحية الجنوبية لبيروت.
على المستوى الداخلي، والحقيقة هنا بيت القصيد. هذا النشاط موجه إلى الداخل ليذكر اللبنانيين وقادتهم بأن الأمر في لبنان معقودٌ للولي الفقيه. فاللبنانيون الذين يعتقدون أنّ «حزب الله» استبدل الهدف الأساسي الذي جاء في بيانه التأسيسي قبل أربعين عاماً بتحويل لبنان إلى جزء من ولاية الفقيه، هم واهمون. فـ»الحزب» لم يستبدل الهدف الاستراتيجي، إنما هو استبدل المسالك التكتية لتحقيق هذا الهدف الذي لم يتغير.
لذلك على اللبنانيين الذين يرفضون الخضوع لدولة «الحزب» وولاية الفقيه أن يواجهوه بنفس الوسائل، قبل أن يستكمل السيطرة على لبنان، أرضاً وشعباً ودولة، مدعوماً بذميين ووصوليين من مختلف الطوائف والمكونات. فلا يمكن إقامة توازنٍ مع «الحزب» بالتشارك معه في دولة واحدة؛ لأنّ مفاهيمه وأساليبه لإدارة الدولة التي يصبو إلى تحقيقها، تتناقض تماماً مع مفهوم الدولة التي يحاول اللبنانيون إعادة بنائها. ما يعيشه اللبنانيون اليوم من مآس ليس سوى شراكة غير متكافئة بين «الحزب» وبقية اللبنانيين.
إنّ إقامة التوازن مع «الحزب» تفرض على من تبقى من اللبنانيين الأحرار، إقامة دولةً حرة فوق كل ما تبقى من أرض لبنان الخارجة عن سيطرته؛ لأنّ الإستمرار في الشراكة معه كما هي اليوم، يعني الموافقة له على الإستمرار في ابتلاع هذه الدولة حدوداً وأمناً وسياسة ومالاً… فـ»الحزب» كان طليعيّاً وسبّاقاً في «فدرلة» لبنان التي يعيبها على الآخرين، لكنها تبقى الحلَّ الوحيد العملي لإعادة توحيده.
لا يوجِّه النشاط العسكري الأخير لـ»الحزب» رسالة إلى دولة إسرائيل؛ إنما هو رسالة إلى الخارج بأن «الحزب» يحكم لبنان؛ كما هو إبلاغ إلى الداخل للتسليم بولاية الفقيه. لذلك على اللبنانيين الأحرار عدم الإكتفاء بالتصريحات والمواقف النظرية، إنما التحرك عمليَّاً نحو إقامة «فدرلة» مقابلة لإنقاذ لبنان.