كانت الحدود شهدت توغلات متبادلة بين الجيش الإسرائيلي و”حزب الله” في مناطق حدودية متنازع عليها، ما رفع حدة التوتر، مستدعياً حراكاً أممياً ودولياً.
في إطار تلك اللقاءات، اجتمع قائد قوات “يونيفيل” الجنرال أرولدو لازارو مع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي على هامش المحادثات الأممية حول تمديد مهمة القوات الدولية في لبنان.
وفي لقاء آخر اجتمع وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب مع المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونيتسكا والسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا.
بعد اللقاءات صرح ميقاتي بأن لبنان أبلغ الأمم المتحدة استعداده لترسيم الحدود الجنوبية مع إسرائيل على طول “الخط الأزرق”، مشدداً على أن لبنان يعد بلدة الغجر تابعة له باعتراف الأمم المتحدة ومؤكداً سعي بلاده إلى حل قضية خيمتي “حزب الله” على الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل “دبلوماسياً”.
وكان رئيس مجلس النواب نبيه بري أشار أثناء لقائه مجلس نقابة محرري الصحافة إلى أن “الخيمتين موجودتان على أرض لبنانية والمطلوب من المجتمع الدولي إلزام إسرائيل تطبيق القرار 1701 والانسحاب من الشطر الشمالي لقرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا نقطة الـ(B1)، وهي نقطة حدودية متنازع عليها”.
هوكشتاين في المنطقة
تزامن ذلك مع وصول كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الطاقة أموس هوكشتاين إلى إسرائيل، حيث التقى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وجرى خلال الزيارة التباحث في ملفات عدة من بينها التوتر على الحدود مع لبنان وقضية خيمتي “حزب الله”، وفق ما أكدت صحيفة “يسرائيل هيوم”.
وتحدثت تقارير إعلامية لبنانية عدة عن استعدادات رسمية لبدء المفاوضات الحدودية وربطت الأمر بزيارة هوكشتاين، إذ إن اسمه ارتبط بشكل مباشر بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين البلدين ونجاحها إلى حد وصفه بأنه “عراب الاتفاق”.
وقالت بعض التقارير إن “قيادة الجيش اللبناني باشرت تحضير ملفات الحدود البرية القديم منها والجديد مع التدقيق فيها كي تكون جاهزة عندما يأتي الوقت المناسب لانطلاق ورشة إعادة الترسيم البرية على الحدود الجنوبية مع إسرائيل”.
لبنان الرسمي والحزبي
يبدي الجانب اللبناني جدية ظاهرة في الحديث عن ترسيم الحدود البرية عبر عنها وزير الخارجية في أكثر من تصريح، معتبراً الترسيم “حلاً لمختلف الإشكالات على الحدود”.
في المقابل رفض أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله منطق الحديث عن “ترسيم حدود برية” بين لبنان وإسرائيل، مطالباً “بانسحاب العدو من النقاط اللبنانية المحتلة” ومؤكداً أن أرض بلدة الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا “لن تترك للإسرائيليين” وأن الغجر “أرض لبنانية أعاد العدو احتلالها”.
واعتبر “حزب الله” أن مسؤولية إعادة تلك المناطق للبنان بلا قيد أو شرط تقع على “الدولة والشعب والمقاومة”، موضحاً أن “الحزب” نصب “خيمة على الحدود داخل الأراضي اللبنانية وخيمة أخرى داخل خط الانسحاب في مزارع شبعا”، وحذر إسرائيل من التعرض للخيمتين.
بدورها أكدت مصادر إسرائيلية رسمية أنه “لا توجد مفاوضات مع لبنان الذي لا يعترف بدولة إسرائيل، بالتالي لن نتفاوض معه لا الآن ولا في المستقبل”.
ورداً على سؤال حول وجود نية بإجراء مفاوضات، قال المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية ليور حياة في حديث إعلامي إن “حزب الله منظمة إرهابية بنت خيمة على الجانب الإسرائيلي من الحدود”، مشيراً إلى أنه “يتم التواصل مع القوات الدولية ودول عدة لمعالجة هذا الأمر”، رافضاً الدخول في مزيد من التفاصيل.
“حزب الله” والاتفاق البحري
يقول مصدر سياسي لبناني لـ”اندبندنت عربية” إنه ما إن تثار مسألة ترسيم الحدود مع إسرائيل حتى يبدأ فريق من اللبنانيين، تحديداً فريق “الممانعة” برمي الاتهامات والتخوين، وذريعتهم أن ترسيم الحدود مع تل أبيب يعني الاعتراف بها كدولة.
واستدرك المصدر “لكن بعد دخول حزب الله غير المباشر في ملف التفاوض على الحدود البحرية وقبوله الضمني بتوقيع التفاهم معها، فهل يجب إثارة المواضيع نفسها عند الحديث عن الترسيم البري؟”.
وأشار إلى أن الشعارات التي ترفعها “المقاومة” لا تتطابق مع ما يجري على أرض الواقع، فالاتفاق البحري جرى ووقع مع “دولة إسرائيل” وهو اعتراف ضمني بدولة “الاحتلال” حتى إن كان عبر الوسيط الأميركي الذي وصفه “الحزب” بـ”الوسيط غير النزيه”، وكل ما يجري على الحدود اللبنانية الآن لزوم ما لا يلزم لأن “الحزب” مطالب قبل غيره بأن يلتزم ضبط النفس، فثمن العودة عن الاتفاق مع إسرائيل سيكون غالياً جداً وسيكلف لبنان كثيراً.
ثلاثة خطوط حدودية
يعتبر كثيرون أن الحدود في الأساس مرسمة منذ عشرينيات القرن الماضي وبخرائط رسمية لدى الأمم المتحدة ولبنان وإسرائيل منذ اتفاق الهدنة عام 1949.
النائب في البرلمان اللبناني جميل السيد اعتبر في تغريدة له أنه “وبمجرد القول بالترسيم يعني أننا نطعن ضمناً ومجاناً بشرعية حدودنا الدولية، وهذا مرفوض وطنياً وسياسياً ودستورياً”.
وتاريخياً مرت الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل منذ ما بعد اتفاق “سايكس- بيكو” بثلاث مراحل، الأولى اتفاق 1923 وهو “ترسيم الحدود النهائي” بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني، بحيث مثل الانتداب الفرنسي المقدم بوليه ومثل بريطانيا المقدم نيوكومب، ما عرف لاحقاً باتفاق “بوليه- نيوكومب”، ووقع في السابع من مارس (آذار) 1923 وتضمن 38 نقطة فصل بين لبنان وإسرائيل، إضافة إلى النقطة 39 على الحدود المشتركة اللبنانية- السورية- الإسرائيلية، من رأس الناقورة إلى منطقة الحمة السورية.
وحدد الاتفاق النطاق بعلامات موصوفة ومرقمة، وأودع الاتفاق في عصبة الأمم وصدق كوثيقة دولية في السادس من فبراير (شباط) 1924.
وتمثلت المرحلة الثانية في اتفاق الهدنة بين بيروت وتل أبيب في الـ23 من مارس 1949 في منطقة رأس الناقورة بالجنوب اللبناني، لكن بعد حدود هدنة عام 1949، ظهرت وكمرحلة ثالثة، حدود ما يعرف بـ”الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان وإسرائيل وهضبة الجولان في السابع من يونيو (حزيران) 2000.
وفقاً للأمم المتحدة، فإن “الخط الأزرق” يبلغ طوله 120 كيلومتراً ووضعته المنظمة لتأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية، ولا يعتبر هذا الخط حدوداً دولية برية بين الجانبين، وبقيت حينها بعض النقاط العالقة، من ضمنها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وبحسب الوزير بوحبيب توجد 13 نقطة خلافية على الحدود مع إسرائيل، “سبع منها هناك اتفاق عليها وست تشكل مادة خلاف”.
النقاط الـ13
ذكرت بعض الصحف اللبنانية أنه تم تشكيل لجنة لبنانية مع الأمم المتحدة للعمل على تحديد النقاط المختلف عليها والوصول إلى حل في شأنها، في موازاة تفعيل عمل اللجنة الثلاثية التي تضم ضباطاً من الجيش ومسؤولين من قوات الطوارئ الدولية (يونيفيل) وضباطاً إسرائيليين للبحث في 13 نقطة يتحفظ عليها لبنان، وهي نقاط تمتد من بلدة الناقورة غرباً باتجاه بلدة الماري شرقاً.
وكان يفترض أن يعقد اجتماع للجنة الثلاثية في الناقورة الإثنين الماضي للبحث في معالجة النقاط العالقة المتبقية، لكن وفقاً لمصادر صحافية لم يحضر الإسرائيليون بسبب الأوضاع الأمنية والعسكرية على الحدود، ويستمر عمل الأمم المتحدة لترتيب هذا الاجتماع.
ويشرح العميد المتقاعد في الجيش اللبناني بسام ياسين الذي سبق أن ترأس الوفد التقني العسكري اللبناني المفاوض حول الحدود البحرية، النقاط العالقة، بحيث تمتد هذه النقاط على كامل الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، من البحر وصولاً إلى بلدة الغجر شرقاً على الحدود مع سوريا.
ويضيف في حديث صحافي أن ما يسمى نقاط عبارة عن بقع جغرافية، أهمها نقطة B1)) الساحلية في منطقة رأس الناقورة التي سبق أن سببت الخلاف الرئيس بين لبنان وإسرائيل خلال ترسيم الحدود البحرية، فكان لبنان يطالب باعتبارها منطلقاً برياً لترسيم حدوده البحرية، وسط رفض من الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على تلك المنطقة الحدودية ويعتبرها جزءاً من أراضيه.
ووفقاً لياسين “الاتفاق الذي حصل على ترسيم الحدود البحرية، أبقى نقطة B1 قضية معلقة لحين الاتفاق عليها، فيما بقية النقاط الـ12 تمتد على كامل الشريط الحدودي، بعضها بقع صغيرة والخلاف عليها لا يتعدى الأمتار المعدودة، وبقع أخرى تصل إلى ألفين وثلاثة آلاف متر مربع وهناك بقعة تصل مساحتها إلى 18 ألف متر مربع، وهذه النقاط لا تشمل قرية الغجر ومزارع شبعا”.
وتتوزع النقاط الـ13 على طول الحدود كالتالي، الأولى في رأس الناقورة، والمعروفة بالنقطةB1، ثلاث نقاط في بلدة علما الشعب، نقطة في كل من البلدات الحدودية التالية البستان ومروحين ورميش ومارون الراس وبليدا وميس الجبل والعديسة وكفركلا وصولاً إلى الوزاني.
وتتفاوت مساحة هذه النقاط وأكبرها في بلدات رميش والعديسة والوزاني، فيما يعتبر لبنان أن لديه بالإجمال مساحة 485039 متراً مربعاً مقتطعة من أراضيه.
وفي السابق تم الاتفاق على معالجة سبع نقاط من أصل 13 نقطة، أهمها التي تقع بمحاذاة مستوطنة مسكاف عام.
الحدود مع سوريا
يطرح كثيرون سؤالاً مشروعاً وهو طالما أن الحدود البحرية رسمت مع دولة “عدوة” وهي إسرائيل أليس من الأجدى ترسيم الحدود مع دولة “شقيقة” وهي سوريا؟
ويربط باحثون مسألة الحدود اللبنانية- السورية، بحراً وبراً، بعهد الانتداب الفرنسي في البلدين (1920-1943)، أي ما قبل استقلالهما، حين كانا يخضعان كمنطقة انتدابية واحدة لسلطة المفوض السامي الفرنسي الذي لم يحدد النقاط الحدودية الفاصلة، في ظل وحدة جمركية واقتصادية ونقدية وسياسية بين البلدين.
يقول الباحث عصام خليفة “عندما أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 تم تعيين الحدود وفق القرار 318 وهناك خمسة أو ستة اتفاقات وضعت في فترتي الانتداب والاستقلال وموثقة بمحاضر التحديد والتحرير، وعلى رغم التقدم الكبير الذي أنجز في عملية الترسيم، إلا أننا لم نصل إلى مرحلة التثبيت لأسباب مختلفة ومعروفة من الجميع، لكن في بروتوكول الجامعة العربية في الإسكندرية وافقت سوريا على حدود الدولة اللبنانية في نص خاص بلبنان. ولأن لبنان عضو في الأمم المتحدة فهذا يعني اعترافاً بحدوده وسيادته ضمن هذه الحدود، والمادة الأولى من الدستور اللبناني والميثاق اللبناني الموقع في منزل يوسف السودا عام 1938 ينص على تأكيد الدفاع عن حدود الدولة اللبنانية”.
لم تكن الحدود اللبنانية- السورية التي تمتد على أكثر من 360 كيلومتراً يوماً “مضبوطة” أو متماسكة، فتلك الحدود “الرخوة” عرضة للتجاذبات السياسية والمناخ الإقليمي وللخروق عبر المعابر غير الشرعية، خصوصاً الحدود الشرقية، ويتوزع عليها 136 معبراً غير شرعي، وهناك قرى وبلدات نصف أراضيها في الجهة اللبنانية والنصف الآخر في الجهة السورية.
يقول مراقبون في سهل البقاع في تصريحات متفرقة ومنذ عام 2006، إن إمكان ضبط الحدود بين لبنان وسوريا يعد “ضرباً من الخيال”، ومنذ الاستقلال لم تبادر سوريا جدياً لحل ملف ترسيم الحدود وضبطها، كما تراخت السلطات اللبنانية عن المطالبة بحسم هذا الملف.
واقتصرت بعض المحاولات على تشكيل لجان مشتركة لترسيم الحدود البرية من دون الوصول إلى نتيجة أيضا، وظهر الخلاف الحدودي بالترسيم البحري شمالاً مع سوريا عام 2011 عندما أصدرت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة حينها المرسوم رقم 6433 ورسم بموجبه أحادياً الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل والشمالية مع سوريا والغربية مع قبرص.
سوريا تعترض
لكن سوريا وبعد إصدار لبنان المرسوم 6433، وبسبب الاختلاف في طرق الترسيم، أودعت اعتراضها لدى الأمم المتحدة عام 2014 على الموقف اللبناني وترسيم البلوكات “1” و”2″، لافتة إلى أن لبنان اعتمد في ترسيمه المعايير التي يقرها اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار، إلا أن سوريا لم تنضم إلى هذا الاتفاق.
ومما جاء في نص الاعتراض السوري “لا يجوز أن يتم الترسيم بين الدول المتجاورة أو المتقابلة بالإرادة المنفردة لإحدى الدول. والمرسوم اللبناني بصيغته المودعة عبارة عن تشريع داخلي صدر وفق القوانين الوطنية اللبنانية، وليست له أية صيغة إلزامية خارج الحدود الوطنية اللبنانية، بالتالي فهو غير ملزم للجمهورية العربية السورية”.
لكن سوريا وقعت في شهر مارس 2021 عقداً مع روسيا عبر شركة “كابيتال” بعد إبرامه عام 2020، ومنحت دمشق بموجبه الشركة حقاً حصرياً بالتنقيب عن البترول في حقول متداخلة مع لبنان.
وعن هذا يقول الباحث والأستاذ في القانون الدولي أنطوان سعد إن “العامل التاريخي هو ما يعوق الترسيم لأن سوريا لا تعترف ضمناً باستقلال لبنان عنها وعدم تبعيته لها”.
وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2022 ألغى النظام السوري زيارة وفد رسمي لبناني إلى دمشق، كانت مقررة لبحث ترسيم الحدود البحرية اللبنانية- السورية.
وتحدثت مصادر لبنانية حينها عن تسلم وزارة الخارجية رسالة من سفارة النظام لدى بيروت تطلب إلغاء الزيارة المقررة على أن يتم تحديد موعد آخر لاحقاً.
وأوضحت أن سبب طلب التأجيل هو حصول ارتباطات مسبقة لدى المسؤولين في النظام السوري، لكن مصادر لبنانية أكدت أن إلغاء الزيارة يعبر عن عدم استعداد دمشق للدخول في مسألة ترسيم الحدود البحرية مع بيروت.