أنهت مجموعة “توتال إينيرجيز” الفرنسية العملاقة الاستعدادات اللوجستية لأنشطة التنقيب عن النفط والغاز، وحفر بئر استكشاف في الرقعة رقم (9) جنوب لبنان، حيث من المتوقع وصول منصة الحفر للبلاد منتصف الشهر الحالي، فيما تستمر مناقشات نيابية بشأن إنشاء صندوق سيادي يحفظ عائدات النفط المنتظرة.
وفرغت الشركة التي تُعتبر المشغل الرئيسي للمشروع، من المناقصة المفتوحة لاختيار باخرة أو منصة الحفر.
وقالت مصادر بوزارة الطاقة اللبنانية لـ”الشرق”، أن المشغل استكمل الاستعدادات اللوجستية داخل لبنان، وأنجز مناقصات للشركات المحلية اللبنانية لتأمين خدمات القاعدة اللوجستية في مرفأ بيروت، وخدمات المروحيات في مطار رفيق الحريري الدولي، وخدمات سفن الإمداد لمنصة الحفر.
وفي مقابل هذه التحضيرات للمشغل في الرقعة رقم (9)، شهد المجلس النيابي اللبناني ورشة تشريعية خاصة باللجنة المنبثقة عن لجنة المال والموازنة برئاسة النائب إبراهيم كنعان، الهادفة إلى إنشاء الصندوق السيادي.
وعملت اللجنة الفرعية على دراسة 4 مشاريع قوانين مقدمة للبرلمان متعلقة بإنشاء الصندوق السيادي، وهي: “اقتراح قانون مقدم من كتلة التنمية والتحرير التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري”، و”اقتراح قانون من كتلة اللقاء الديمقراطي برئاسة النائب تيمور جنبلاط”، و”اقتراح قانون من كتلة لبنان القوي برئاسة النائب جبران باسيل”، و”اقتراح قانون من كتلة الجمهورية القوية التابعة لحزب القوات اللبنانية”.
الاستعانة بخبير نرويجي
المناقشات التي شهدها المجلس النيابي تخلّلها الاستعانة بخبير نرويجي شارك في إنشاء عدة صناديق سيادية حول العالم، وحضر الجلسة التي عقدتها اللجنة الفرعية بوجود أعضاء لجنة المال والموازنة والسفير النرويجي
وذكرت مصادر نيابية لـ”الشرق” أن الخبير النرويجي قدّم عرضاً بشأن الأسس والقواعد الاقتصادية والمالية، وأسس الحوكمة للصناديق السيادية التي ساهم بإنشائها، وعرض توصياته على المجلس النيابي اللبناني للاستئناس بها عند وضع قانون الصندوق السيادي.
وهذا الصندوق توضع فيه الموارد البترولية كي لا يتم إدخالها في موازنة الدولة بشكل مباشر، بهدف الحفاظ على الاقتصاد وعدم الوقوع في ما يعرف اقتصادياً بـ”المرض الهولندي”.
ويُعرف “المرض الهولندي” في علم الاقتصاد بأنه العلاقة الظاهرة بين ازدهار التنمية الاقتصادية، بسبب وفرة الموارد الطبيعية، وانخفاض قطاع الصناعات التحويلية.
وتكمن الآلية بهذا “المرض” في أن ارتفاع عائدات الموارد الطبيعية أو تدفقات المساعدات الخارجية ستجعل عملة الدولة أقوى بالمقارنة مع الدول الأخرى، مما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة صادراتها بالنسبة للبلدان الأخرى، بينما تصبح وارداتها أرخص، مما يجعل قطاع الصناعات التحويلية في الدولة أقل قدرة على المنافسة.
وبحث المجلس النيابي عند إقرار قانون الموارد البترولية في المياه اللبنانية، حفظ حق الأجيال المقبلة في هذه الأصول، وذلك عبر المادة الثالثة من القانون التي تنص على وجوب وضع الموارد البترولية في الصندوق السيادي.
وذكرت المصادر ذاتها لـ”الشرق” أنه في حال تحقيق اكتشاف في المياه البحرية اللبنانية، فإن ذلك لن يؤدي إلى دخول أموال إلى الصندوق السيادي إلّا بعد 5 سنوات على الأقل، وذلك لأن أموال الموارد البترولية ستنفق من أجل تطوير عمليات الاستكشاف، وصولاً إلى مرحلة الإنتاج.
وخلال مرحلة الإنتاج هذه ستحصل الدولة اللبنانية على حصتها الكاملة من الأنشطة البترولية المؤلفة من الإتاوة، وبترول الربح العائد إلى الدولة، والضريبة على بترول الربح العائد للشركات المشغلة.
ورغم الإطار الزمني لعملية الاستكشاف البترولي والنفطي والتي قد تستغرق 3 أشهر بعد بدء عملية الحفر، فإن النقاشات في مجلس النواب اللبناني أظهرت آراء نيابية متعددة بشأن مشروع الصندوق، لكنها استطاعت أن تتوصل إلى مشروع قانون ينتظر إقراره في الموعد الذي يُحدده رئيس المجلس النيابي.
عائق شغور الرئاسة
يُشكل عدم انتخاب رئيس للجمهورية عائقاً أمام مشروع قانون تأسيس الصندوق السيادي، وذلك وسط إصرار عدد من الكتل النيابية اللبنانية على أنه لا يجوز التشريع في المجلس النيابي في ظل الشغور الرئاسي.
وفي حديث لـ”الشرق”، أوضح عضو كتلة “الجمهورية القوية” (القوات اللبنانية) النائب غسان حاصباني أنه “لا تشريع بغياب رئيس للجمهورية، ولذلك فإن إحالة موضوع الصندوق السيادي إلى الجلسة العامة ليس بالأمر المستعجل بالنسبة لنا”.
وأشار إلى أن العائدات البترولية لن تبدأ بالظهور قبل 5 إلى 6 سنوات، فالعجلة لا تنطبق على مشروع القانون، باعتباره للمدى المتوسط والبعيد، وخصوصاً أنه أصبح بمرحلة البت فيه خلال التصويت بالهيئة العامة. والهدف منه، وفقاً للحاصباني “حفظ قيمة الثروة النفطية عندما نُحولها من ثروة مخبأة تحت البحر إلى مادة للبيع مقابل أموال، بحيث تبقى قيمة الأموال للأجيال القادمة”.
وكان قد تم إقرار مشروع قانون الصندوق السيادي للنفط والغاز من قبل لجنة المال والموازنة، تمهيداً لرفعه للهيئة العامة للمجلس النيابي.
وأضاف حاصباني: “النقاط الأساسية التي كنا مهتمين بها هي أولاً استقلالية مجلس إدارة هذا الصندوق، وأن لا يكون هناك تدخل سياسي فيه، على أن يتحدد ذلك في آلية التوظيف، إضافة إلى كيفية توزيع مداخيل الصندوق على المحافظ الاستثمارية. فهناك محفظة الاستثمار والادخار التي من واجبها الحفاظ على قيمة كل الموارد التي ستنتج عن عملية التنقيب للأجيال القادمة، واستثمار قيمة هذه الأموال خارج لبنان باستثمارات مجدية ولديها عائد كبير للحفاظ على قيمتها وقيمة التضخم الذي يحصل في العملة”.
كما تحدث النائب اللبناني عن محفظة ثانية وهي “محفظة التنمية” التي يأتي دخلها من الضرائب التي تحصل عليها الدولة من قطاع النفط والغاز.
أما نقاط الخلاف، وفقاً للحاصباني، فهي نوعية وتتعلق بطبيعة الاستثمارات، متسائلاً “هل نسمح أن تكون هناك سحوبات من المحفظة؟”.
وتابع: “بعض الجهات تقول إن الحكومة يمكنها أن تضع المحفظة في الموازنة وتسحب منها لتدفع ديونها، بحيث تُعتبر مصاريف تشغيلية، بينما هناك وجهة نظر أخرى تعتبر أنه يجب أن تكون المصاريف لمشاريع استثمارية ذات طابع تنموي في لبنان، وأن لا تذهب هدراً. وهذا الاختلاف لا يزال موجوداً. كما يرى البعض أنه يجب دفع ودائع المصارف لحل أزمة المودعين.
وأوضح النائب عن القوات اللبنانية أن هذا الدخل لن يظهر إلّا بعد 10 أو 15 سنة، ما يعني التأخر طويلاً لرد ودائع الناس.
وتابع “هناك نقطة ثالثة خلافية وهي مرجعية هذا الصندوق، والذي من الضروري أن يكون لديه أكبر حجم من الاستقلالية، ويتعاطى مباشرة مع الحكومة، ولا يتبع لرئيس مجلس الوزراء ولا لرئيس الجمهورية ولا لأي وزارة”، لافتاً إلى أن البعض يقول إنه يجب مراسلة الحكومة عبر وزير المال، وهذه النقطة تُركت للنقاش والتصويت عليها.
وبحسب حاصباني، تم الاتفاق على أن يكون المسؤول عن الصندوق السيادي اللبناني مستقلاً قدر الإمكان، ويعود إلى مجلس الوزراء بشكل مباشر.
“اختلاف بشأن التشريع”
بدوره، قال عضو كتلة لبنان القوي (التيار الوطني الحر) النائب آلان عون، إن “الكتلة النيابية اقترحت قانوناً بشأن الصندوق السيادي، وتمت دراسة 4 اقتراحات بالتوازي، وخضع هذا القانون لدراسة من قبل لجنة فرعية عدة أشهر، قبل رفعه إلى لجنة المال بعد، ومن ثم دراسته وإقراره. وننتظر وصوله إلى الهيئة العامة ليصبح قانوناً نافذاً”.
وأشار إلى أن هناك اختلافات بشأن مشروع القانون، مثل تحديد المرجعية التي سترفع أسماء الهيئة التي ستكون مسؤولة عن الصندوق، سواء رئيس الحكومة أو وزير المال أو وزير التنمية الإدارية وغير ذلك.
وتابع: “وحّدنا النظرة على شكل الصندوق وإطاره وعمله وصلاحياته واستقلاليته، وتبقى نقطة المرجعية التي ستحسم في الهيئة العامة”.
والهدف من هذا الصندوق، وفقاً لعون، تمكين الدولة من ادخار إيرادات العائدات البترولية، ويتم خلق إطار حتى لا تذهب الإيرادات إلى الخزينة والموازنة كالعادة، لافتاً إلى أنه صندوق استثماري، ومحفظة ادّخار للحفاظ عليها واستثمارها لتحقيق إيرادات وأرباح من خلال الضرائب وغيرها، لاستخدامها في مشاريع تنمية في لبنان.
ولفت إلى أن الهدف هو “الحفاظ على الثروة حتى لا يُصرف كل شيء، إضافة إلى موضوع الادخار للأجيال القادمة”.
وعن موعد إحالة مشروع القانون إلى مجلس النواب، أوضح عون “في هذه المرحلة نختلف كنواب حول موضوع التشريع، فهناك كتل نيابية تقول إنه لا يجوز التشريع من دون وجود رئيس للجمهورية، وهناك كتل مثلنا نحن ترى أنه يمكن التشريع فقط للأمور الضرورية الملحة”.
وأشار النائب عن التيار الوطني الحر في حديثه لـ”الشرق” إلى أن “قانون الصندوق السيادي يُمكنه أن ينتظر 7 سنوات، لكن إقراره هو بمثابة إشارة إيجابية ومهمة على الصعيد الدولي إذ نقول من خلاله إننا أصبحنا جاهزين تشريعياً لمواكبة عملية التنقيب عن النفط”.
واعتبر عون أن “هذا الموضوع حساس، ويجب التعاطي معه بشكل إيجابي، وإذا حصل نضوج وجهوزية لإقراره لا يجب تفويت تلك الفرصة”.
نقاش مفتوح
من جانبه، أوضح النائب راجي السعد عضو كتلة “اللقاء الديمقراطي” التي يترأسها تيمور جنبلاط أن اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال والموازنة أنهت التحضير لمشروع قانون الصندوق السيادي، “على أن تُحيله لجنة المال إلى الهيئة العامة للمجلس النيابي”.
وقال السعد إنه “لا يزال هناك بعض النقاط ستتم مناقشتها تمهيداً للتصويت عليها في الهيئة العامة، فقد وقعت اعتراضات عديدة، منها تحديد الجهة الرسمية التي ستقترح أسماء مرشحين لمجلس إدارة الصندوق السيادي. هل سيكون مجلس الوزراء أو وزير المال أو وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية”، مشيراً إلى أن هذه النقاط لم يُتفق عليها و”لذلك سيكون هناك تصويت في الهيئة العامة”.
وعن توقيت إحالة المشروع إلى الهيئة العامة للتصويت عليه، أوضح النائب عن كتلة اللقاء الديمقراطي في حديث لـ”الشرق” أن “هذا سؤال صعب للغاية، لأن الأمر من صلاحية رئيس المجلس النيابي، فهو من يقرر التوقيت”.
وأضاف “هناك من يعتبر أن البرلمان يُمكن أن يُشرع القوانين حالياً، بينما يُعارض فريق آخر الأمر ريثما يتم انتخاب رئيس للجمهورية، فلا نعرف متى سيأخذ رئيس المجلس النيابي قرار إرسال المشروع إلى الهيئة العامة، ولا نعرف أيضاً ما إذا كان نصاب الجلسة سيكتمل”.
وأشار السعد إلى أن الهدف من هذا الصندوق هو الحفاظ على العائدات البترولية للأجيال المقبلة، وإنماء البلد، بينما يواجه إقرار المشروع حالياً بإشكالية الشغور الرئاسي.
وفي حديث لـ”الشرق”، قال النائب في كتلة “التغيير” إبراهيم منيمنة إن مشروع الصندوق السيادي سيُحال إلى الهيئة العامة.
وأوضح: “نحن كتغييريين أو مستقلين لم نقدم مشروع قانون. ويمكن تأجيل الأمر حتى يتبيّن حجم النفط والغاز، فلا يمكننا أن نُقرر اليوم على ماذا يستند هذا المشروع من دون معرفتنا حجم الدخل من البترول لنبني رؤية معينة على أساسه”، مضيفاً: “سنُعبر عن رأينا في الهيئة العامة خلال مناقشته”.
ولفت منيمنة إلى تحفظات على الخطوة لأنها خارج السياق، مؤكداً أهمية أن يكون في لبنان حالة تعافي أو استقرار مالي ونقدي حتى يتم تنفيذ الصندوق السيادي، كما يجب أن يكون الدخل واضحاً، ويكون هناك شفافية، بينما هذا كله لم يحدث وفق قوله.
وبينما يتم انتظار عقد الجلسة النيابية العامة، يبقى النقاش مفتوحاً في لبنان، وسط تساؤلات عما إذا كان الصندوق السيادي سيتمكن من حفظ ثروة اللبنانيين التي ستكتشف في عمق البحار أم أن مصيرها سيكون الهدر كما هدرت أموال المودعين في المصارف، والذين يواصلون منذ الأزمة الاقتصادية عام 2019 رفع الصوت لإعادة أموالهم التي تنتظر تنفيذ خطة اقتصادية وإنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي.