في ظل انهيارها الشامل واستمرار الفراغ الرئاسي وتعذر الاتفاق منذ أكثر من تسعة أشهر على انتخاب رئيس جمهورية جديد، في وقت هدأت الأوضاع في مخيم “عين الحلوة”، وبدأ اتخاذ الاجراءات اللبنانية والفلسطينية لتطويق ما حصل ومنع تكراره.
وتوقف إطلاق النار داخل مخيم عين الحلوة، لكن هذا لا يعني أن القتال قد لا يتجدد في ظل استمرار بناء التحصينات والتعزيزات من جانبي فتح والجماعات الإسلامية المتشددة، والأهم الاستثمار السياسي الداخلي والإقليمي لما حصل. لكن ما بات ثابتاً لدى الجميع بأن تداعيات اشتباكات عين الحلوة والخريطة الميدانية الجديدة يجري العمل على توظيفها سياسياً وأمنياً في إطار الصراع الكبير الحاصل في المنطقة، والذي يشكل لبنان إحدى المساحات المشتعلة فيه.
خلفيات الصراع الفلسطيني
ويمكن اعتبار أن بيان السعودية لمواطنيها في لبنان، والذي تلته مواقف مشابهة لدول خليجية كالكويت وقطر وسلطنة عمان؛ ينطلق مما جرى مؤخراً في مخيم عين الحلوة، حتى إن عمدت المملكة إلى عدم تسمية ما حدث بالمخيم، والمؤكد أن الرياض استشعرت مخططا من النظام السوري وحزب الله لإنهاء فتح وتحجيمها فلسطينياً عبر فصائل متشددة.
أبدت المملكة قلقها من الوضع في عاصمة الشتات الفلسطيني أي عين الحلوة من زوايا متعددة، أهمها ما تردد حول تزويد حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية بالسلاح والمعدات اللوجستية للحركات الإسلامية التي كانت تقاتل بغطاء كبير من حزب الله على اعتبار أن من عادوا من سوريا من متشددين وسلفيين باتوا مؤخراً حلفاء للحزب، بهدف تنويع السيطرة الفلسطينية في ظل سيطرة فتح على أكثر من 70% من المخيمات بالشكل الإداري والأمني، وهذه الخريطة لم تشهد تبدلات ميدانية فعلية خلال المعارك، لكن الهزيمة التي تلقتها حركة فتح وعدم قدرتها على الحسم عرضها لضربة معنوية.
وتشير المعلومات إلى أن الإمارات والتي تراجعت علاقتها في المرحلة الماضية مع السعودية، تسللت إلى المخيمات وإلى بنية حركة فتح في لبنان والمحسوبة سياسياً على السعودية، من خلال مستشار رئيس الإمارات محمد دحلان والذي بات حاضراً بشكل كبير في مخيمات الشمال والجنوب عبر كوادر انفصلت عن فتح أبرزها العميد محمود عيسى الملقب بـ”اللينو” والذي ينشط بدعم من زوجة دحلان.
وعليه فإن تجميع الإسلاميين المتشددين العائدين من سوريا والعراق فتح الباب أمام تساؤلات مهمة ما إذا كان هنالك من يريد الاستثمار في هذه الأعمال الأمنية بدفع إقليمي قوامه النظام السوري وحزب الله من جهة، ومصالح الإمارات من جهة أخرى.
تجدد التصعيد في اليمن وتراجع الحماس السعودي للتطبيع مع الأسد
بالمقابل يؤكد مصدر دبلوماسي أوروبي رفيع لموقع تلفزيون سوريا أن التحذيرات السعودية للمواطنين السعوديين ودعوتهم لمغادرة لبنان بشكل سريع، لا تنفصل عن كل التحولات التي تشهدها المنطقة في الأمن والسياسة، وخاصة أن أجواء المصالحة التي ظهرت لمدة أشهر بدأت تتلاشى، على وقع تجدد التوترات في ملفات عديدة، في ظل الاستعصاء الحاصل في اليمن وإصرار جماعة الحوثي على مكتسبات في الأمن والسياسة والاقتصاد، وإصرار الجانب الإيراني على إحالة الملف لحزب الله لمعالجته، في حين الرياض حريصة على حله مباشرة مع إيران، أي من دولة لدولة وليس من دولة لميلشيا مسلحة.
وتسعى السعودية لعدم سقوطها في فخ سياسة “إنهاكها وإتعابها” التي تتقنها إيران والتي مارستها دائما في السابق، لذا تحركت من جديد الجبهات العسكرية مع الإعلان عن هجوم مباغت للحوثيين جنوبي اليمن، في أول تحرك ميداني منذ فترة طويلة.
ويرى المصدر أن الموقف الإيراني الذي يحمل في طياته جانباً من “البلطجة”، عبر المطالبة بحصة في حقل “الدرة”، أدى لتوتر سياسي عبر البيان المشترك للسعودية والكويت بتعزيز ملكية هذا الحقل كاملة للسعودية والكويت وأن لا حصة إيرانية فيه.
أما سورياً فقد تراجع الحماس العربي للتطبيع مع النظام السوري، ويجري تأجيل متعمد لتعيين سفير سعودي جديد في سوريا والتأجيل الحاصل لافتتاح السفارة السورية على الرغم من انتهاء أعمال ترميم السفارة السعودية، وخاصة أن المملكة وبحسب ما يروج سعوديون قد أبلغت نظام الأسد بأنها لن تعيّن سفيراً لها طالما أن النظام لم يلتزم بما تعهّد به في القمة العربية والاجتماعات التشاورية، إضافة إلى الواقع المتأزم الذي ترسخه سياسات النظام.
ويؤكد المصدر أن الرياض أمهلت النظام حتى نهاية العام الحالي للالتزام بهذه التعهدات وإلا فإن المملكة ومعها الدول العربية الأخرى ستذهب باتجاه وقف أي تعاون أو تنسيق أو أي برنامج دعم محتمل.
ويربط المصدر ما حدث بما يجري في شمالي سوريا من ارتفاع مستوى التعاون الروسي – الإيراني، مقابل تعزيزات أميركية، وسعي لإقامة تعاون وثيق بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والعشائر السنية وصولاً إلى العراق، لإقفال المنطقة بوجه المجموعات المتحالفة مع إيران. وهو ما يعني الإطباق على الطريق البرية التي تربط بين إيران ولبنان.
ولذلك أيضا توقفت مسيرة التطبيع العربي مع الأسد، وتبددت معها الأجواء التفاؤلية التي سادت، ليعلن النظام على لسان وزير خارجيته منذ أيام، خلال زيارته إلى طهران، وجوب خروج القوات الأميركية من سوريا.
وبحسب المصدر فإن حصول تطورات إيجابية بين واشنطن والرياض أدت لوقف الاندفاع نحو النظام السوري، وخاصة في ظل الزيارات المتكررة لمستشار الأمن القومي جاك سوليفان إلى الرياض، مع ممثلين عن وزارة الدفاع والمخابرات الأميركية، والشروع بإرسال قوات أميركية من “المارينز” إلى الخليج، والمطالب السعودية بضمانات أمنية أميركية ثابتة وكاملة بأمن الخليج، إضافة إلى تزويدها بالنظام الدفاعي الجوي الأميركي “تاد” الأكثر تطوراً، في حين اقترح سوليفان الذهاب إلى اتفاقية دفاعية أمنية وعسكرية مدتها نصف قرن، مع خطة تفصيلية لإنشاء مشروع نووي سلمي، مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
والأكيد أن اتفاقا كهذا ينعكس بشكل مباشر على علاقة الرياض وطهران، وقد يؤدي إلى انهيار الاتفاق، وذلك يعني بالضرورة أن الاستنفار الأميركي في سوريا والخليج قد يؤدي إلى انفجارات متتالية في سوريا ولبنان، بكونها الترجمة المباشرة لأي تصعيد سيحصل.
لذا فإن الساحات العربية التي شهدت صراع نفوذ خلال السنوات الماضية بين إيران والسعودية، تخضع في هذه المرحلة لصراع تعديل موازين القوى لترسيخها على مستوى السلطة، وهذه الساحات كما هو معروف هي: اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة.
هذه المرحلة القاسية من شد الحبال وضعت لها واشنطن عنوان إعادة رسم الخريطة السياسية في المنطقة، أو بمعنى آخر إعادة ترسيخ ترتيب جديد لتقاسم النفوذ والمصالح فيها.
بالتوازي تصاعدت وتيرة الاحتكاكات الإيرانية بناقلات النفط في الخليج العربي بهدف احتجازها، والرسالة واضحة هنا وتتعلق بالمكاسب الاقتصادية التي تريدها إيران من إيرادات الممرات البحرية للنفط. ولذلك أرسلت واشنطن تعزيزاتها الجوية المتطورة وباشرت بتطبيق فكرة وضع جنود للمارينز في كل ناقلة نفط، بما يعني أن أي سعي جديد لاحتجاز ناقلة نفط سيؤدي حكماً إلى صدام عسكري مع الجيش الأميركي.
كذلك فإن إيران باتت ممتعضة وبشكل واضح من حالة التقارب التركي – السعودي مؤخراً وما نتج عنه من اتفاقيات استراتيجية وخاصة بعد توقيع اتفاقية تصنيع المسيرات التركية المتطورة في السعودية، والتي قد تغير مجرى أي معركة مستقبلية في حال اندلعت، في ظل استخدام الحوثيين للمسيرات الإيرانية الانتحارية.
انزعاج من لبنان
لبنانياً فإن موقف السعودية بالطلب من السعوديين مغادرة لبنان فوراً، ليس مرتبطاً بتطورات عين الحلوة فحسب، بل له أسبابه اللبنانية، حيث كان لافتاً أنه خلال الاجتماع الخماسي في الدوحة منتصف الشهر الماضي، كانت الرياض وواشنطن متقاطعتين لجهة الضغط والعقوبات على الأطراف السياسية الحليفة لحزب الله والتي تعطل الاستحقاق الرئاسي، وهي التي كانت قد اقترحت إصدار موقف مشترك يقضي بمنع المواطنين الخليجيين من السفر للبنان، إلا أنه اصطدم حينذاك بمعارضة قطرية -مصرية.
فيما يعمل أعضاء من أصول لبنانية على استصدار قرار عقوبات تشمل كل المسؤولين السياسيين المعطلين للاستحقاق الرئاسي وتحديداً رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكونه الأداة التشريعية لحزب الله في لبنان والذي يمسك بالجلسة البرلمانية لانتخاب الرئيس.
وتحديداً وعقب البيان الصادر عن اجتماع الدوحة في 17 تموز والذي حمل موقفاً واضحاً لجهة انتخاب رئيس بمواصفات لا تشبه مرشح حزب الله والنظام السوري (سليمان فرنجية)، كان رد حزب الله عليه بالذهاب باتجاه الحوار مع حليفه السابق جبران باسيل على قاعدة “اللاشروط” وهذا الحوار قد ينتج عنه انتخاب فرنجية المخالف للإجماع الإقليمي والدولي ويرسخ سلطة الحزب والنظام السوري لبنانياً، ما أزعج الدول المعنية وتحديداً السعودية والتي كانت تعول على بقاء الصراع الرئاسي بين باسيل وحزب الله، لذا فإن الدول العربية باتت متأكدة أن حزب الله لا يودّ التسوية ويعمل على السيطرة على لبنان، وبالتالي فإن السعودية ستقول بشكل واضح إنها غير معنية بأي حل مستقبلي للبنان وسوريا، وهي ستبقى خارج أي معادلة إلى أن يتغير الظرف.