لا تزال المؤسسات الأمنية في لبنان (الشرطة والجيش) تواجه تحديات للصمود والقيام بدورها في حفظ النظام العام والسلم الأهلية، فيما لا تجد تحذيرات السياسيين والخبراء آذانا صاغية في ظل انشغال الطبقة السياسية في المناكفات وصراع تحصيل المواقع.
وقال النائب أشرف ريفي في بيان إن “مؤسسة قوى الأمن الداخلي قامت بمهامها الوطنية بتفانٍ وحرفية وانضباط، وشكّلت في بعض الحقبات مثالاً يُحتذى”، معتبرا أن “ما يحصل اليوم لا يشبه هذه المؤسسة التي قدمت الشهداء من أجل لبنان وحماية أمنه واستقراره بالتكامل مع الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى. الأولوية اليوم يجب أن تكون لتحصين الضباط والرتباء والأفراد وتأمين احتياجات عائلاتهم من طبابة وتعليم وعيشٍ كريم، كي يصمدوا ويقوموا بواجبهم”.
وأضاف ريفي “ندعو الجميع إلى تحكيم الضمير ووقف المهاترات، وإذا كان هناك من تنافس أو اختلاف في الرأي، وهو أمرٌ طبيعي، فيجب أن يكون ضمن جدرانٍ مغلقة، وما يجري معيب، والتاريخ لا يرحم”. ودعوة ريفي ليست الأولى من قبل مسؤول سياسي ولن تكون الأخيرة، وسط تآكل الحاضنة المالية والاجتماعية لأفراد قوات الأمن الداخلي والجيش. وتبذل دول غربية جهودا لتأمين أفراد المؤسستين (الجيش والشرطة)، إلا أن الجهود تبقى منقوصة.
ويقول مراقبون إن الخطوات الغربية والحكومية المتخذة لتعديل رواتب الضباط والأفراد العسكريين والأمنيين لا تحل المشكلة بل تؤجلها إلى وقت لاحق. وسعت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي للحفاظ على تماسك المؤسسات الأمنية من خلال صرف مساعدات مالية لفائدة العسكريين والأمنيين الذين تضرروا من الأزمة الاقتصادية رغم شح الموارد المالية. ويقول مراقبون إن هذه الإجراءات ترقيعية ولا تبدد المخاوف من انهيار آخر قلاع الاستقرار في البلاد.
ووصفت دوائر لبنانية صدور مرسوم حكومي بالإجراء المنقوص رغم أهميته، فيما يعاني الجيش اللبناني من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أثرت على المقدرة الشرائية للعسكريين وجهوزية المؤسسات الأمنية. ووقع المرسوم رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزراء الداخلية والبلديات بسام مولوي، والدفاع الوطني موريس سليم، والمالية يوسف الخليل.
ويستمر العمل به إلى حين إنجاز الحكومة مشروعا متكاملا لتعديل الرواتب والأجور. وصدر هذا المرسوم بعد توقيع مشروع المرسوم من وزير الدفاع الوطني بعد انتظار أكثر من أسبوعين. وتنامى الاستياء في صفوف قوات الجيش بسبب انهيار العملة الذي أدى إلى محو أغلب قيمة رواتبهم. وانخفضت قيمة الليرة اللبنانية 90 في المئة منذ أواخر 2019 في انهيار مالي يشكل أكبر تهديد لاستقرار لبنان منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.
ورغم التحذيرات المتكررة من انهيار المؤسسة العسكرية اللبنانية التي تأثرت سلبا بتداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة، لا يزال المانحون الغربيون يوفرون مساعدات عينية لا تحل المشكلة، بل تؤجلها إلى حين. ويدعو خبراء إلى ضرورة تسريع الجهود الدولية لجهة تأمين مباشر لرواتب العسكريين لتحييد الجيش.
وتقول دوائر سياسية لبنانية إن الدعم المالي المحدود للجيش اللبناني خطوة قد تؤجل انهياره ولا تبدده، منتقدة قصور الخطط الحكومية في الاستجابة لنداءات قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون المتكررة. وتشير هذه الدوائر إلى أنه إضافة إلى التقصير الحكومي في تلبية حاجيات الجيش المدفوع بأزمة اقتصادية ومالية حادة، لم تغادر القوى الغربية مربع التلكؤ في الاستجابة لضروريات المرحلة الراهنة، رغم أنها تعتبر تحييد المؤسسة العسكرية اللبنانية عن الأزمة الاقتصادية أساسيا لاستقرار لبنان.
ويطالب خبراء غربيون ولبنانيون بضرورة تسريع المساعي الدولية لتوفير تمويل مباشر لرواتب العسكريين والأمنيين، وهي مطالب لم يتبناها المجتمع الدولي إلى حد الآن لاعتبارات لا تزال غير واضحة وغير مبررة. ورغم هذه المخاوف، لا يزال المجتمع الدولي يتبع إستراتيجية الدعم العيني للجيش اللبناني، وهي إستراتيجية أثبتت قصورها.
وحسب تقديرات دولية، يحتاج الجيش اللبناني إلى ما بين 90 و100 مليون دولار سنويا لتمكين القيادة من تأمين 100 دولار إضافية على رواتب العسكريين الذين يعانون مصاعب فعلية مع تبخر رواتبهم التي لم تعد تتجاوز الـ70 أو 80 دولارا، مع الارتفاع المتفلّت لسعر الصرف في السوق الموازية. واستطاعت المؤسسة العسكرية تأمين مساعدات من دول عربية وغربية، وهي تصل دوريا إلى بيروت، وغالبيتها حصص غذائية ووجبات طعام للجنود وعائلاتهم، إلا أن ذلك غير كاف لتأمين استمرارية وحدات الجيش.
ولطالما اعتبر اللبنانيون مؤسسة جيشهم مرساة للاستقرار، فهي إحدى المؤسسات الوحيدة التي تقف فوق انقسامات البلاد منذ الحرب الأهلية، ومن خلال الحروب مع إسرائيل والتفجيرات والاضطرابات الداخلية، إلا أن الجيش اللبناني مهدد الآن بانهيار مالي مدمر في البلاد، وهو أحد أسوأ الانهيارات التي شهدها العالم خلال الأعوام الـ150 الماضية وفقًا للبنك الدولي.
ويضع الانهيار الاقتصادي ضغوطا غير مسبوقة على القدرات العملياتية للجيش، مما قد يؤدي إلى القضاء على رواتب الجنود وتدمير الروح المعنوية لواحدة من القوى القليلة التي توحد لبنان في وقت تتصاعد فيه التوترات والجريمة وسط فقر السكان المتزايد.
وتدق مسألة الجيش اللبناني ناقوس الخطر، وهو أمر غير معتاد بالنسبة إلى قوة ربما تكون فريدة من نوعها في الشرق الأوسط من حيث أنها تظل إلى حد كبير خارج السياسة. وحذر قائد الجيش في خطاب ألقاه أمام الضباط في مارس من أن الجنود “يعانون وجوعى مثل باقي الناس”. وانتقد صراحة القيادة السياسية التي أصيبت بالشلل بسبب الاقتتال الداخلي ولم تفعل شيئًا تقريبا لمعالجة الأزمة.
وأكد مسؤول عسكري كبير أن الوضع الاقتصادي أثر بشكل كبير على الروح المعنوية، وقال المسؤول “ليس هناك شك في أن هناك استياء كبيرا في صفوف الجيش”. وأشار المسؤول إلى أن “الجيش يتطلب واجبات كثيرة”، بما في ذلك الحفاظ على الاستقرار الداخلي. وقال الضابط الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته تماشيا مع اللوائح “القيادة قلقة بشأن تطورات الوضع الأمني ميدانيا والقدرة على التعامل مع هذه القضية”، وأضاف أن دعم الجيش أمر حاسم لتجنب وقوع لبنان في الفوضى.
ويوازن الجيش جزئيا حزب الله، الفصيل الشيعي المدعوم من إيران والذي يتميز بقوة مسلحة قوية فضلاً عن الهيمنة السياسية. ويحذر مراقبون من أن تدهور الجيش سيسمح لحزب الله بأن بكسب مساحة أكبر، كما يمكن أن يفتح الباب أمام دول كروسيا أو الصين أو إيران أو سوريا لاستمالة القوة وإيجاد طرق للتأثير عليها.
وبعد عقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل النخبة السياسية، بدأ الاقتصاد اللبناني بالتفكك في خريف 2019 حيث انهار القطاع المصرفي الذي كان مزدهرا في يوم من الأيام، وفقدت العملة حوالي 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في السوق السوداء، وهو ما جعل أكثر من نصف السكان يسقطون في براثن الفقر.
وتأثر 80 ألفا من أفراد الجيش بالوضع المالي، فقبل الأزمة كان الجندي يتقاضى ما يعادل 800 دولار شهريا، لكن الراتب انخفض الآن إلى أقل من 100 دولار شهريا. ورواتب الضباط أعلى ولكنها انخفضت أيضا الآن إلى حوالي 400 دولار شهريا. ولترشيد النفقات قررت إدارة الجيش التوقف عن تقديم اللحوم في الوجبات المقدمة للجنود أثناء الخدمة، ولا يزال يقدم علاجا طبيا مجانيا لكن تمّ الحديث عن تدهور جودة وفعالية الخدمات بشكل حاد.
وفي حين أن حالات الفرار الإجمالية لا تزال منخفضة نسبيا، فقد شهد الجيش حالات متزايدة من التقصير في أداء الخدمة، ومعدلات عمل عالية بدون انقطاع، والمزيد من العمل الإضافي من قبل الأفراد لزيادة الرواتب. وقال إلياس فرحات وهو لواء متقاعد من الجيش اللبناني يعمل حاليا باحثًا في الشؤون العسكرية، إنه لا يعتقد أن سيناريو الانهيار ممكن الآن، مؤكدا أن هذه ليست أزمة جيش بل أزمة بلد.