ما أكثر الشهداء اليوم وما أقلّ الشهادة الحقة… ما أكثر الشهداء ولكل أمر شهيده، فهناك شهيد العدالة، وشهيد الكلمة، وشهيد الفن، وشهيد الحب…
وما أقل الشهادة التي، لكي تكون شهادة حقة، لها شروط وأصول. فالشهادة ليست صفة يطلقها من يشاء على من يشاء. ولا بطولة يحققها شخص في ظرف ما، ولا شعارًا يختبئ تحت ظلاله من يريد.
أولًا ـ في مفهوم الشهادة والشهيد
لقد استعمل اليونان كلمة “شهيد” (Martyrs) بمعنى الشاهد على صحة واقعة، أو حدث تاريخي أو ديني أو سياسي.
أما في التقليد المسيحي، فأصبحت الكلمة تشير الى الذي يعطي الشهادة، بالدم فقط، عن إيمانه ومعتقده. فالكل يعلم ما للدم من قيمة مقدسة في معظم الديانات لأنه يمثل الحياة. والحياة هي دائمًا على علاقة بالله، والسيد الوحيد والمطلق على الحياة، يهبها لمن يشاء وينتزعها ممن يشاء.
لهذا تمنع الديانات القتل وإراقة الدماء، كما أن أقوى العهود وأقدسها هي التي تقوم على مزج نقاط من الدم بين المتعاهدين وبالتالي أصبحت إراقة الدم هي التضحية الكبرى والعطاء الأسمى للحياة. هكذا تصبح الشهادة بالدم أمانة يحملها الذين بذلت الحياة من أجلهم كي يتابعوا الرسالة التي ضحّى الشهيد بذاته من أجل تحقيقها. ويصبح الشهيد بطلًا يُبجَّل، ورمزًا يُقدّس، ومثالًا يقتدى به.
ومن ثم خرجت الكلمة، مع تطور المجتمعات وتعلمن بعضها عن إطارها الديني لتشمل أبعادًا وحقائق يعتبرها مجتمع معين، والشهيد بصورة خاصة، مثلًا وقيمًا عُليا تستحق أن يبذل دمه وحياته شهادة لها وفداء عنها.
ثانيًا ـ المسيح هو الشهيد الأنموذج
والمسيح، ببذله دمه على الصليب والتضحية الإرادية لذاته التي ارتضى بها، كان الأنموذج المثال للشهيد، إذ أعطى الشهادة الأسمى عن أمانته للرسالة التي كلّفه بها الآب: “لقد ولدت وأتيت الى العالم لأشهد للحق” (يوحنا 18/37).
وعليه يعتبر موت الشهيد نوعًا من الفداء لخطيئة الآخرين، أو لخطأهم، أو لعدم اكتراثهم بالحقيقة التي يموت الشهيد من أجلها. فعلى موت المسيح بُنيت الكنيسة وقامت… واستشهاد المسيحيين الأولين ودماؤهم المهدورة في حلبات روما طعامًا لأسودها أصبحت حجارة متراصة في عمارة الكنيسة.
وانطلاقًا من كل هذا يمكن استخلاص بعض الصفات الأساسية للشهادة الحقة.
ـ فالشهيد يعرف الرسالة التي التزم بها وهو يعي جميع ضروراتها: إنه واعٍ وملتزم.
ـ أن يقبل رسالته هذه ويرضى بتأديتها.
ـ أن يعرف ويرتضي بأن تكون شهادة الدم هي الثمن الذي قد يدفعه.
ثالثًا ـ الشهيد… عاشق للحياة
إن بذل الشهيد دمه هو بالنهاية، انتصار للحياة على الموت، كما جاء في سفر الرؤيا. “ورأيت الذين ذبحوا في سبيل الشهادة ليسوع… قد عادوا الى الحياة… تلك هي القيامة الأولى” (20/4).
ذلك أن الشهيد لا يختار الشهادة كهدف يبغي الوصول إليه بأي ثمن، ولا هو يفتش عن الموت ويسعى اليه كتعبير عن حقيقة يلتزم بها، ويفتش من أجلها، ويدافع عنها، بل الشهادة هي التي تختار الشهيد، فيرضى بها أمانة لإيمانه ومعتقده. الشهيد يفتش عن الحياة انتصارًا لحقيقته. لكنه لا يهرب ولا يتهرب من الشهادة إذا فُرضت عليه كسبيل وحيد للوصول الى تحقيق رسالته، بمعنى أن حبة القمح التي لا تموت في الأرض لا تثمر سنابل وقمحًا، فتعطي الحبة مئة وأكثر.
هذا هو بالحقيقة، ما يميز الشهيد عن سواه، عن الفدائي مثلًا، فالاثنان يسعيان لتحقيق أهدافهما وجعل قضيتهما تنتصر، وقد لا يموتان من أجل ذلك. إنما الفرق بينهما أن الأول يقدّس الحياة ويزدري الموت، بينما الثاني يسعى الى الموت ويزدري الحياة.
رابعًا ـ الشهيد مقاوم ملتزم
الشهيد لا يموت بالأساس ضد الآخر بل من أجل الآخرين، إنه عنصر حوار وانفتاح، انما الانفتاح الحقيقي والحوار الصادق والعميق. الشهيد شاهد لرسالته وليس شاهدًا عليها فقط.
الشهيد لا يستسلم ولا يخضع، فهو مقاوم بطبيعته، والمقاومة هي سنة الحياة ووسيلتها، فالجسم الذي لا يقاوم منذ الثواني الأولى لوالدته لا يعيش ولا ينمو، إذ يُصاب بمرض فقدان المناعة ويصبح معرضًا لخطر الموت في أية لحظة… فالمقاومة تُكسب المناعة الداخلية التي تسمح بردع التدخل الخارجي المضر والقاتل. والشهيد المقاوم والملتزم هو إكسير المقاومة وترياقها.
الشهيد بشير… وليس نذيرًا.
إنه بشير انتصار الحقيقة، وتحقيق الحلم والأمل بالمستقبل، وليس نذير الموت، والانكسار، والإحباط، والاستسلام.
الشهيد بشير مقاومة وانتصار، بشير حياة وقيامة.