“300 ألف مشرد وأكثر من 200 قتيل و6,500 مصاب” كان هذا عدد ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ما زالت آثاره بادية في المدينة، وقُدرت خسائره المادية بنحو 15 مليار دولار، ولكن لم يحاسَب أحد من المسؤولين عنه حتى اليوم.
دلال معوض صحفية لبنانية مقيمة في باريس. وهي مؤلفة كتاب “كل ما فقدته: الانفجار في لبنان، وانهيار أمة، والنساء الناجيات” تروي تجربتها الشخصية مع انفجار مرفأ بيروت في مقال نشر صحيفة The Guardian البريطانية.
تقول: “كان الرابع من أغسطس/آب 2020 يوماً حاراً ورطباً للغاية في لبنان. كنت عالقةً في المنزل أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وأعمل عن بُعد بسبب الجائحة. كنت أنهي دوام عملي في فترة ما بعد الظهيرة كمراسلةٍ لوكالة Associated Press الأمريكية، حيث كنت أغطي أحداث لبنان والشرق الأوسط الأوسع”.
كنت تحت رحمة اتصال إنترنت غير مضمون، وأتحمَّل مثل معظم اللبنانيين الحرارة الحارقة وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر. يعود تاريخ انقطاع التيار الكهربائي في لبنان إلى الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً وانتهت عام 1990، ولم تُحَل المشكلة حتى يومنا هذا.
يقع منزلي على بُعد سبعة أميال من بيروت، على تلٍّ يطل على غابة صنوبر صغيرة وهادئة. أصبحت بيروت ومحيطها غابة خرسانية خانقة، وكنت أشعر بأنني محظوظةٌ لوجود أشجار أنظر إليها والوصول إلى بعض المساحات الخارجية خلال أيام الصيف الطويلة. لم يكن لدي أي خطط للذهاب إلى المدينة في ذلك اليوم. في حوالي الساعة السادسة مساءً، ذهبت إلى المطبخ لإطعام قطتي التي كانت تنتظرني في الحديقة.
غارة جوية إسرائيلية أم تفجير لمنزل رئيس الوزراء؟
كانت طقوسنا اليومية عندما فتحت النافذة وأفرغت الطعام المعلب في وعاء، سمعت هدير الطائرات الحربية المألوفة وهي تتسابق في سمائنا. تخترق الطائرات الحربية الإسرائيلية المجال الجوي اللبناني منذ عقود، لكن المقاتلات النفاثة كانت متكررة بشكل استثنائي في ذلك الصيف.
بعد دقيقة، هز المنزل دوي انفجار هائل -أصخب صوتٍ سمعته في حياتي. كان أول ما فكرت به هو وقوع غارة جوية في مكان قريب. بدأت أصرخ بلا حول ولا قوة: “لقد ضربونا، لقد ضربونا”. هرعت إلى هاتفي لمعرفة ما إذا كان الجميع، بما في ذلك زوجي وطفلتي، في أمان. كانت ابنتي مع أخت زوجي وكانت بخير. لكنني لم أستطِع الاتصال بزوجي الذي كان في طريقه إلى المنزل.
بدأت في البحث عن معلومات على وسائل التواصل الاجتماعي. شغَّلت التلفاز وقالت تقارير غير مؤكدة إنه ربما كان هناك انفجار في منزل رئيس الوزراء اللبناني. حاولت الاتصال بزملائي في بيروت، لكن لم أستطِع الوصول إليهم.
ذكرت وسائل الإعلام المحلية لاحقاً أن الانفجار، الذي شعر به السكان على بعد أميال في قبرص المجاورة، كان انفجاراً في المرفأ بسبب الألعاب النارية في أحد المستودعات. بعد عشر دقائق، اتصلت إحدى زميلاتي. كانت في حالة هستيرية، فقد انهار سقف منزلها، ورغم أنها -بأعجوبة- لم تُصَب بأذى، تعرض منزلها لأضرارٍ بالغة. لم أستطع أن أفهم كيف دمر انفجار في المرفأ منزلها الذي كان على بعد عدة أميال.
بدأت الصور الأولى من المرفأ والانفجار تتدفق عبر التلفزيون المحلي. ما زلت أعتقد أن التأثير الرئيسي كان في المرفأ نفسه. كانت فقط القليل من الحقائق هي الواضحة في تلك الليلة. في النهاية ظهر زوجي بأمان. واستغرق الأمر منا، ومن البلد بأكمله، حتى صباح اليوم التالي لندرك حجم ما حدث.
نوافذ وأبواب محطمة على بعد أميال والسيارات كأنها ضربت بمطرقة
قدت سيارتي إلى بيروت في الساعة 6 صباحاً للقيام ببث مباشر لبرنامج Good Morning Britain من موقع بالقرب من المرفأ. حتى قبل أن أصل إلى المدينة، رأيت النوافذ والأبواب مُحطَّمة على بُعد أميالٍ من مركز الانفجار. بدأت مشاهد الدمار قبل عدة أميال من دخول العاصمة.
كان موقع الانفجار نفسه هادئاً ومخيفاً، وضوء الصباح يخترق الدخان الذي كان لا يزال يتصاعد فوق المرفأ، ويكشف سطوعه بوضوح خارق فداحة الدمار. دُمِّرَ المرفأ تماماً، وانفجرت صوامع الحبوب الهائلة فيه، وانهار جانب بالكامل تقريباً، وهو ينظر بضعف إلى المدينة المدمرة. لم أرَ في حياتي شيئاً يشبه ذلك. ذكرني بحمص وحلب في سوريا والموصل في العراق، تلك المدن التي دمرتها غارات جوية استمرت لشهور.
تشرَّد 300 ألف شخص بين عشية وضحاها، وأُصيبَ الكثيرون منهم، وصاروا يتجولون بلا حول ولا قوة بحثاً عن مأوى وطلباً للمساعدة. كان الدمار أكبر في الأجزاء الشرقية من المدينة. تضررت المباني، وصارت كل ما تبقى من ناطحات السحاب الفاخرة المطلة على المرفأ أعمدة خرسانية عارية.
بدت السيارات على طول الطريق وكأنها ضُرِبَت بمطرقةٍ عملاقة، وسدَّت الأنقاض والحطام الشوارع. كان الناس ينظفون الشوارع بالفعل وينقذون ما في وسعهم ويبحثون عن ناجين. لم أرَ أي ضباط شرطة أو جيش يساعدونهم. ومع اقترابي من الجانب الشرقي الداخلي للمدينة، استمر زجاج النوافذ المنفجر في السقوط من الإطارات. وصارت شظايا الزجاج تجرح أقدام الناس الذين حاولوا إخلاء مساراتٍ عبر الحطام. أصبحت ضوضاء الحطام هي الموسيقى التصويرية لحياتنا. كانت كل ما نسمعه، طوال اليوم، ولأسابيع عديدة.
الانفجار جاء في خضم أزمة مالية غير مسبوقة وجائحة كورونا
في عام 2020، كان لبنان، مثل معظم دول العالم، يحاول احتواء الجائحة. لكن الفيروس انتشر في وقت كانت فيه البلاد تكافح بالفعل أزمة اقتصادية ومالية لا مثيل لها. في أكتوبر/تشرين الأول 2019، اجتاحت لبنان احتجاجاتٌ عمت أرجاءه ضد النخبة السياسية الحاكمة، وزيادات الضرائب على وجه الخصوص. بدت الدولة فاشلةً على نحوٍ متزايد. بدأت الليرة اللبنانية تفقد قيمتها في ذلك الصيف، واستمرت في الانخفاض بأكثر من 80%. أغلقت البنوك أبوابها أثناء الاحتجاجات، وعندما أعيد فتحها، مُنع المودعون من الحصول على مدخراتهم. كان كل هذا في نهاية المطاف نتيجة مخطط كان يديره لسنوات البنك المركزي والبنوك التجارية والمؤسسة السياسية، والتي اختفت فيها أموال الجميع، بما في ذلك الأموال الخاصة بي.
بحلول منتصف عام 2020، كان التضخم في ارتفاع، ووصلت البطالة والفقر إلى مستويات جديدة، وكان انهيار القطاع الصحي احتمالاً حقيقياً، حيث كافحت المستشفيات للبقاء واقفة على قدميها. ازدادت حالات الإصابة بفيروس كوفيد مرةً أخرى، وكان الطاقم الطبي يحذر من كارثة وشيكة.
نساء فقدن أبنائهن وأزواجهن
بعد الانفجار، بدأت في تجميع قصص الناجيات، وخاصة من النساء. فقدت الكثير منهن كل شيء في ذلك اليوم: أغلى الناس في حياتهم، وصحتهم الجسدية والنفسية، ومنازلهم وسبل عيشهم، وقدرتهم على أن يكونوا سعداء وأن يشعروا بالأمان بأي شكل من الأشكال. فقدت الأمهات أطفالهن في الانفجار، وفقدت الزوجات شركاءهن، والأطباء والممرضات، ومسعفو الإسعافات الأولية، واللاجئون، والمهاجرون -لن ينسى أحد تلك اللحظة في الساعة السادسة وثماني دقائق والتفاصيل المروعة لليوم الذي غير حياتهم.
نجم الانفجار عن شحنة من نترات الأمونيوم، بحسب مسؤولين لبنانيين، كانت مخزنةً في مرفأ بيروت منذ سنوات، لكن مصدرها ووجهتها ما زالا مجهولين حتى يومنا هذا. قُتِلَ أكثر من 200 شخص وأُصيبَ حوالي 6,500، كثيرٌ منهم كانوا في حالة حرجة.
الانفجار جاء نتيجة مناورات الطبقة الحاكمة الفاسدة
لم يكن الضحايا لبنانيين فقط. وكان من بينهم مواطنون من سوريا وفلسطين ومصر وإثيوبيا وبنغلاديش وباكستان والفلبين وهولندا وألمانيا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة وأستراليا. حتى في بلد شهد أكثر من نصيبه من الصراع، لم يسبق أن عانى الكثير من الناس في لبنان من نفس الحدث الصادم في نفس الوقت.
جاء الانفجار نتيجة المناورات الإجرامية والفاسدة للمؤسسة السياسية الحاكمة. يعكس الهيكل الإداري لمرفأ بيروت تقسيم السلطة بين النخبة الحاكمة -إنه إلى حد كبير صورة مصغرة للفساد في لبنان ككل.
كان العديد من القادة السياسيين الحاليين في لبنان أمراء حرب في الحرب الأهلية في البلاد، وهو صراع متعدد الأوجه اندلع في عام 1975 واستمر حتى عام 1990. وقد ظل هؤلاء القادة يحكمون البلاد منذ ذلك الحين. وهم يترأسون أحزاباً ذات طابع طائفي ويعتبرون أنفسهم رعاة للطوائف اللبنانية المختلفة. لقد عززوا نظام تقاسم السلطة على أسس طائفية، واستفادوا منه منذ فترة طويلة.
تسيطر الأحزاب الطائفية المختلفة على إدارات ووكالات الدولة المختلفة، ويحصل الجميع على نصيب من حلقة الفساد. لقد عزز نظام تقاسم السلطة السياسي هذا أيضاً شبكة من المحسوبية جعلت هؤلاء السياسيين أقوى من الدولة نفسها. إنهم يسيطرون على مؤسساتها ويستخدمون مواردها لخدمة مصالحهم الضيقة. ومرفأ بيروت ليس استثناء.
لماذا تركت المواد الكيميائية في المرفأ رغم علم المسؤولين بوجودها؟
يتساءل الناس حتى يومنا هذا عن سبب ترك المواد الكيميائية المتفجرة في مرفأ في قلب المدينة لسنوات. ما من إجابةٍ محددة حتى الآن. وفقاً لتحقيقات إعلامية وتقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش صدر في 3 أغسطس/آب 2021، كان العديد من كبار المسؤولين والوزراء من مختلف الأحزاب السياسية ورؤساء الوزراء والرئيس اللبناني على علمٍ بوجود مئات الأطنان من نترات الأمونيوم، وعلى درايةٍ بخطورة ذلك. لكن لم يُتَّخَذ أي إجراءٍ للتعامل مع ذلك.
ما مقدار الصدمة التي يمكن أن يتحملها المرء في حياته؟ تقول كاتبة المقال: “إنه سؤال ما زلت أطرحه على نفسي بعد أن عشت في لبنان والشرق الأوسط وكتبت عنه لسنوات عديدة. إنني مذهولةٌ من مستوى العنف الذي تحملناه وتسامحنا معه مراراً وتكراراً”.
تحدث جميع الناجين الذين قابلتهم تقريباً عن سماع الطائرات. أتذكر أنني سمعت هذا الصوت بنفسي. لكن خبراء الطب الشرعي ربطوا هذا الدوي بشدة الحريق واحتراق الأوكسجين والمواد الكيميائية في الهواء، وكذلك بالانفجارات الأصغر التي سبقت الانفجار. لم يكن هناك دليل موثوق حتى يومنا هذا يوثق غارة جوية أو حتى مشهد طائرات.