رغم انخفاض أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا خلال الشهور الماضية، ووصول المخزونات إلى مستويات مطمئنة، لا يزال شبح حدوث أزمة جديدة، على غرار تلك التي اندلعت في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، يلوح في الأفق، وفق خبراء ومحللين.
وانخفض سعر الغاز القياسي في أوروبا TTF إلى 24.63 يورو لكل ميغاواط في الساعة في منتصف يوليو، وهو أدنى مستوى منذ أوائل يونيو، وأقل بنحو 90 في المئة من السعر في أواخر أغسطس من العام الماضي، في ذروة أزمة الطاقة.
وتقول وكالة بلومبيرغ إن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا تتجه لتسجيل واحدة من أكبر الانخفاضات في يوليو، وذلك مع تراجع النشاط الصناعي وزيادة المخزونات رغم ارتفاع الطلب على الغاز بسبب موجة الحر في القارة.
وانخفضت الأسعار أكثر من 65 في المئة هذا العام، حتى بعد ارتفاعها في يونيو، بسب ارتفاع الحرارة في أجزاء من أوروبا، والانقطاعات غير المتوقعة لإمدادات الغاز من النرويج.
وأشارت الوكالة إلى أن تراجع الطلب على الغاز زاد من مستويات التخزين التي باتت عند مستوى 85 في المئة.
وتقول صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية إن سعة التخزين الحالية في الاتحاد الأوروبي بلغت أكثر من 80 في المئة، وهي نسبة أعلى 20 نقطة مئوية من متوسط السنوات الخمس السابقة.
وتوقع محللون أن تصل مواقع التخزين إلى 90 في المئة قبل نوفمبر، الشهر الذي حددته الكتلة الأوروبية للوصول إلى هذا الهدف.
وتأتي هذه الأنباء مع تباطؤ التضخم في أوروبا بفضل الانخفاض في أسعار الطاقة بأكثر بنسبة 6.1 في المئة في يوليو، بعد انخفاض بنسبة 5.6 في المئة في يونيو، وفق فرانس برس.
وذكرت وكالة “يوروستات”، التابعة للاتحاد الأوروبي، أن النمو في المنطقة وصل إلى 0.3 في المئة خلال الفترة بين أبريل ويونيو، بعد تسجيل نمو نسبته صفر في الأشهر الثلاثة الأولى من العام.
من جانبه، حذر الخبير الاقتصادي، هاشم عقل، في تصريحات لموقع الحرة، من الاعتقاد بأن أوروبا لم تعد تواجه أزمة غاز، قائلا إنها فقط مرت بشتاء دافئ لذلك لم يكن الأوروبيون بحاجة إلى الوصول إلى سعة تخزين 90 في المئة لضمان توافر الإمدادات.
ووصل سعر الغاز الطبيعي في أوروبا في أوج أزمة الإمدادات إلى أكثر من 40 دولارا لكل مليون وحدة حرارية، لكنه انخفض إلى نحو 9 دولارات، ثم ارتفع قليلا إلى 12 دولارا بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وفي ظل تراجع الأسعار، انخفض صافي دخل شركة النفط الفرنسية “توتال إنرجيز” في الربع الثاني من العام، على خلفية انخفاض أسعار الغاز الطبيعي وهوامش أرباح التكرير في أوروبا، وسط حالة من الهدوء في أسواق الطاقة، وفق رويترز.
وأظهرت بيانات من وزارة المالية الروسية أن عوائد ميزانية البلاد من النفط والغاز تراجعت 47 في المئة إلى 3.38 تريليون روبل (37.4 مليار دولار) في النصف الأول من العام، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وذلك بسبب تراجع عوائد الضرائب من جراء تدني الأسعار وتقلص حجم المبيعات.
وعوائد مبيعات النفط والغاز ضرورية للاقتصاد الروسي الذي يتركز على السلع، وهي ضرورية لتمويل ما تصفها بأنها “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا.
وتأثرت عوائد الطاقة الروسية بفعل سقف الأسعار الذي فرضه الغرب على النفط الروسي، وإغلاق خط أنابيب “نورد ستريم” لنقل الغاز إلى أوروبا، وهو خط تم تفجيره في سبتمبر الماضي.
وبلغ العجز في الميزانية الروسية 42 مليار دولار في أول خمسة أشهر من العام، وهو ما يزيد 17 في المئة بالفعل عن المتوقع في 2023 بأكمله.
وتتوقع وزارة المالية أن تتراجع عوائد النفط والغاز هذا العام 23 في المئة إلى 8.94 تريليون روبل، بينما تتوقع أن يبلغ العجز في الميزانية 3 تريليونات روبل تقريبا، أو ما يعادل 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفق رويترز.
مخاوف من فصل الشتاء
ورغم البيانات الإيجابية المتعلقة بقارة أوروبا، حذرت وكالة الطاقة الدولية من حدوث نقص في إمدادات الغاز في حال حدوث “مزيج من فصل الشتاء البارد، والتوقف الكامل لغاز خط الأنابيب الروسي، وانخفاض توافر الغاز الطبيعي المسال”، وهو ما قالت إنه قد يعني أن القارة لن يكون لديها سوى مستويات تخزين 20 في المئة فقط، بحلول أبريل المقبل، وهو مستوى من شأنه أن يهدد بانقطاع الإمدادات.
ولم يستبعد المدير العام للمجموعة الفرنسية العملاقة “توتال إنرجي”، باتريك بوياني، تماما احتمال أن ينفد الغاز من أوروبا في الشتاء المقبل، مشددا على ضعف قدرات التخزين الأوروبية وتكاليف الواردات، وفق فرانس برس.
وقال بوياني خلال طاولة مستديرة في منتدى اقتصادي في إيكس-آن-بروفانس بجنوب فرنسا: “من ناحية الغاز، نعم، ستكون الخزانات ممتلئة” في أكتوبر، لكن “في حال كان الشتاء باردا في أوروبا”، لن تكفي قدرات تخزين القارة الأوروبية للاستجابة لطلب الغاز من المستهلكين الأوروبيين طوال الموسم، وفق قوله.
وهذا لا يعني بالضرورة أن الأوروبيين سينقصهم الغاز، لكن الواردات اللازمة لتلبية الطلب ستكون تكلفتها عالية، بحسب ما حذر بوياني.
وبات الأوروبيون يعتمدون كثيرا على الغاز الطبيعي المسال الأميركي منذ قطع الإمدادات الروسية، وأصبحوا يعتمدون أيضا على التطورات السياسية في الولايات المتحدة، حيث من المقرر أن تجري الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام 2024.
وحذر بوياني من أنه في حال قرر الجمهوريون المعارضون للرئيس الديمقراطي الحالي، جو بايدن “وقف صادرات (الغاز الطبيعي المسال)، سيكون هناك خطر يتصل بالنظام”.
ويقول هاشم عقل إنه مع زيادة الطلب على الغاز، ستواجه أوروبا خطر الاعتماد على كميات الغاز التي تأتيها من دول مثل الولايات المتحدة ومصر ونيجيريا والجزائر وقطر، التي قد لا تكفي للوصول إلى سعة 90 في المئة.
وتوضح بلومبيرغ أن كبار المستهلكين الصناعيين في القارة مترددون في تشغيل أعمالهم بكامل قوتها بعد أن دفعتهم الزيادة القياسية في تكاليف الطاقة، العام الماضي، إلى الحد من الإنتاج.
وتقول الوكالة إن سوق الغاز في أوروبا هش، فقد تؤدي اضطرابات الإمدادات أو حلول شتاء بارد، أو زيادة المنافسة على الغاز الطبيعي المسال القادم من آسيا، إلى ارتفاع الأسعار.
وقالت الوكالة إنه حتى لو امتلأت مواقع تخزين الغاز في أوروبا بما يقرب من 100 في المئة من طاقتها قبل أكتوبر، فإن ذلك “لا يضمن” استقرار السوق.
وتشير بلومبيرغ كذلك إلى أعمال الصيانة المستمرة منذ فترة طويلة في أنابيب الغاز القادمة من النرويج، مما قد يؤدي أيضا إلى اضطراب الأسواق.
ويشير عقل إلى أن الدول المصدرة للغاز تحكمها اتفاقيات طويلة الأمد لا تستطيع إلغاءها لصالح اتفاقيات جديدة مع الدول الأوروبية، التي استفادت من تحويل الفائض لدى هذه الدول إليها، العام الماضي، حيث تحولت بعض البواخر التي كانت متجهة إلى الصين واليابان وكوريا إليها، لكنها في الشتاء المقبل لا تضمن ذلك.
وتشير رويترز إلى أن الولايات المتحدة كانت حولت صادرات الغاز المسال من آسيا إلى أوروبا في أعقاب الصراع في أوكرانيا، لكن يبدو أنها أعادتها الآن، إذ وصلت واردات آسيا من الولايات المتحدة في يوليو إلى أعلى مستوى لها في 18 شهرا، وذلك بنحو 2.34 مليون طن ارتفاعا من 1.43 مليون في يونيو، و1.91 مليون في يوليو من العام الماضي، في حين انخفضت واردات أوروبا من الولايات المتحدة إلى 3.45 مليون طن في يوليو، انخفاضا من 3.88 مليون في يونيو، حسب رويترز.
وينذر التحذير الجديد لوكالة الطاقة باحتمال تجدد “صراع الطاقة” بين أوروبا وموسكو، على الرغم من الانخفاض المستمر في الأسعار منذ ديسمبر، الذي عزز التوقعات بأن أزمة الغاز في أوروبا قد انتهت.
وقال عقل: “لا يوجد فاض من الغاز في العالم. وهناك مشكلة نقص ستعاني منها أوروبا لثلاث سنوات على الأقل” مع عدم وجود حلول سواء بطرق تقليدية أو من مصادر الطاقة المتجددة.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن القارة قد تكيفت بالفعل مع أزمة الغاز وقننت استخداماته في الحياة العامة.