لا يبتعد مؤسّس «التيار»، الرئيس السابق للجمهورية، العماد ميشال عون عن خيارات صهره النائب جبران باسيل السياسية والحزبية، حيث يبدو وكأنّه عرّاب هذه المواجهة التي يخوضها الأخير في كل تفاصيلها وهو يغطّيه في كل قراراته. باسيل نفسه لا يُخفي أنّه يعتمد في سياسته هذه على دعم عمّه لكي يعطي لقراراته الصفة الشرعية والتغطية اللازمة بعيداً عن كل الإعتبارات والحيثيات التي يتمتّع بها من يرغب في إبعادهم عن التيار أو طردهم منه. وعلى العكس يبدو أنّه يتعمّد ذلك لكي يكرِّس قيادته التي اعتبر أنّها باتت المرحلة الثانية من تاريخ التيار بعد المرحلة الأولى التي كان فيها عون هو القائد. إنّه في كل هذه العملية يطبّق مبدأ «أنا وعمّي عَ خيّي وعَ الغريب».
بعدما ثبّته عون في رئاسة «التيار» في أيلول 2015 وجدّد له في أيلول 2019، من خلال التزكية وإجبار كل من يمكن أن يفكّر بمنافسته على الإنكفاء، تصرّف باسيل في معركة التمديد الثالث في رئاسة «التيار» في أيلول 2023 وكأنّه بات هو القائد الجديد الذي يطبع «التيار» بطابعه الخاص مستلماً الراية من الرئيس عون. في 17 أيلول الماضي وقف في احتفال عشاء هيئة «التيار» في المتن ليعلن استراتيجية عمله الجديدة، وهي ليست غريبة أو بعيدة عن تلك الإستراتيجية التي اعتمدها منذ العام 2015، وحتى قبلها، عندما كان صار واضحاً أنّه صاحب القرار الأول في «التيار»، وأنّه يمون على الجنرال المقتنع بأنّه الأقدر بعده على قيادة التيار والحفاظ على إرثه العائلي والسياسي، وكأنّه نسخة طبق الأصل عنه.
انتظر باسيل عدة سنوات ليعلن في احتفال 17 أيلول تولّيه القيادة الحزبية. في هذا الإحتفال الذي غاب عنه النواب المعترضون، ألان عون وابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا والياس بوصعب، وآخرون، أعلن أولاً النصر على معارضيه. قال: «فتحنا باب الترشيح وقدّمنا للجميع الفرصة بالتساوي، لكن رغم الدعوات والتشجيع العلني منّي ومن غيري، لا أحد استفاد من الفرصة وترشّح. هذا يعني تسليماً مسبقاً بالنتيجة المعروفة، وأنّ لا أحد عنده الاستعداد لخوض معركة انتخابية محسومة شعبياً. بهذا المعنى تكون التزكية ديمقراطية بنتائج حاسمة، وتكون أجمل المعارك هي التي تربحها من دون أن تخوضها».
أضاف باسيل: «هذا معنى التزكية للمرّة الثالثة، لأن التيّارالذي عنده حريّة الخيار، حدّد خياره… وهو ثقة بمساري وبخياراتي التياريّة والوطنية ودعوة لي لمواصلة المسار نفسه. وأنا أجدّد اليوم التزامي نفسه أمامكم من دون أي تراجع أو تنازل أو تعب. وإذا كان لأحد رأي مختلف، حقّه بالاختلاف أو الاعتراض مقدّس، ولكن ضمن بيت التيّار وآليّاته، لا بالصالونات ولا بالإعلام. وعندما يصدر القرار على الجميع الالتزام به، ومن لا يلتزم يضع نفسه خارج النظام وتحت المساءلة والمحاسبة وصولاً إلى الخروج من التيّار. هذه حال الأحزاب وكلفة الانتساب لها… لا أحد مجبر، التيار نعطيه وليس فقط نأخد منه. وأنا على رأس من يلتزم بنظام تيّارنا، وأنا المَثَل، وحتى لو أن أموراً كثيرة لا تعجبني». باسيل ختم متوجهاً الى عون: «جنرال، كل مرة أقف أمامك أشعر بهيبة الأمانة التي سلّمتني إياها عام 2015، وبفخر أقول إنّي حملتها من بعدك».
باسيل الذي تحدث عن «حمل الأمانة من بعد الجنرال عون»، وعن «مساري وخياراتي» وعن حسم المعركة ضد معارضيه وتهديدهم بفرض الطاعة أو بالطرد، كان يحضّر لحملة تطهير «التيار» من معارضيه. بدأ هذه الحملة باختيار معاونيه في قيادته الجديدة من الموالين له شخصياً، مستهدفاً بعض معارضيه الذين لم يُظهِروا أي قدرة على الإعتراض الحقيقي فخسروا المواجهة.
نتيجة هذا التردد كان من الواضح أنّ معارضي باسيل سيجدون أنفسهم تباعاً خارج «التيار»، بينما كان هو يمتلك التوقيت المناسب لاتخاذ القرار. منذ آخر جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية في 14 حزيران الماضي باتت القرارات جاهزة للتوقيع. انتظر المعارضون أن يوقّعها باسيل، وانتظر باسيل أن يعودوا إلى بيت الطاعة السياسي والحزبي، أو أن يخرجوا طوعاً. ولكنّهم لم يفعلوا. ولذلك كانت البداية مع توقيع قرار فصل بو صعب، بينما لا يزال ينتظر على اللائحة عدد آخر منهم النواب ابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا وألان عون، وربّما أسعد درغام وغيرهم من النواب.
في انتخابات العام 2018 توسّعت طاولة اجتماعات تكتل «العهد النيابي القوي». كان العهد لم يكمل بعد عامه الثاني وكان يريد أن تكون بدايته الحقيقية بعد هذه الإنتخابات. الرئيس ميشال عون كان أعلن منذ انتخابه في 31 تشرين الأول أن حكومة العهد الأولى ستكون بعد هذه الإنتخابات. ضمّ تكتل عون وباسيل عدداً من الذين جلسوا إلى تلك الطاولة من النواب إيلي الفرزلي ونعمت فرام وميشال ضاهر وميشال معوض، إلى نواب الطاشناق الأرمن. ولكن الصورة الجامعة لم تكن لتخفي صورة التطورات الجامحة التي هزّت عرش العهد بعد ثورة 17 تشرين قبل أن يُتِمّ عامه الثالث.
من هناك بدأت تتداعى هالة الرئاسة والرئيس و»التيار»، وبدأ باسيل يعمل لترميم صورته ولتأسيس قيادته الجديدة للتيار. تلك التطورات استدعت طرح أسئلة داخل بنية «التيار» حول من يتحمّل مسؤولية الفشل ومسؤولية الخسارات المتتالية، وبدأ التسريب حول تحميل باسيل الجزء الأكبر من المسؤولية. بينما برزت إلى الواجهة عملية تبرير مختلفة تتعلّق برمي المسؤولية على «الآخرين» الذين يحاصرون العهد ويريدون تفشيله ومن بينهم «القوات اللبنانية» وقائد الجيش العماد جوزاف عون.
منذ ذلك التاريخ بدأت تتقلص صورة الحاضرين حول طاولة التكتل تباعاً وصولاً إلى انتخابات أيار 2022 التي شكّل فيها «حزب الله» قوة إنقاذ له، ليس بسبب الغرام بجبران باسيل، بل حتى لا تحصد «القوات» كتلة نيابية كبيرة وتحتلّ صدارة التمثيل النيابي المسيحي. وكان من الواضح أن هذا الغرام آيل إلى الإنحسار والإنهيار مع تفضيل «حزب الله» ترشيح رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. انتظر باسيل انتهاء ولاية الرئيس عون حتى بدأ الحديث عن تحميل الثنائي الشيعي مسؤولية تعطيل العهد ومحاصرته لتفشيله. ولكنّه على رغم ذلك لم يفك تحالفه معه ولجأ إليه في انتخابات نقابة المهندسين. وكما تمّ تعيير باسيل بأنّ الثنائي أمّن له انتخاب ستة أو سبعة نوّاب، وبأنّه لا يمكنه أن يقف في مواجهته، يتم تعييره بأنّ الثنائي أهداه موقع نقيب المهندسين ليس لسبب إلا لمنع فوز المرشح الذي دعمته «القوات اللبنانية».
منذ خروج نائب رئيس «التيار» اللواء عصام أبو جمرة من «التيار»، توالى خروج الكثير من القيادات طوعاً أو بقرار من عون أولاً، ثم من باسيل بعد العام 2015. لائحة الخارجين باتت طويلة. من زياد أسود إلى حكمت ديب ونعيم عون ورمزي كنج وأنطوان نصرالله ونبيل نقولا وشامل روكز وغيرهم، وصولا إلى الموضوعين على لائحة انتظار توقيع القرار، من ألان عون إلى ابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا… ما يريح باسيل في كل هذه القرارات أنّه يجعل ما سيبقى من «التيار» مطواعاً لقراراته، ويُبعد عنه كل من يمكن أن ينافسه في مرحلة ما بعد العماد عون. وما يريحه أكثر أن كل المختلفين معه لا يمكنهم أن يشكّلوا حالة شعبية حزبية تمثيلية كأفراد، ولا يمكنهم أن ينظّموا أي انتفاضة عليه، ولا أن يكوِّنوا قيادة موحّدة لديها برنامج عمل موحّد وهادف. بحيث يبدو وكأنّهم سلّموا بالنتيجة سلفاً، واعتبروا أنّ خروجهم من التيار هو خروج من «تيار باسيل»، بينما هم مستمرّون في «تيار عون» الذي شاركوا في تأسيسه، عندما لم يكن باسيل قد انضمّ إليه بعد.
حملة تنظيف «الوسخ»
باسيل لا ينتظر أن يتكتّل هؤلاء ضدّه لأن ليس من بينهم قائد يتصدّى لقيادة حركة الإعتراض. لذلك يقضي عليهم بالمفرّق ويهشِّم في تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويذهب في اتجاه الوصل مع عدد ممن شكّلوا خصوماً في السياسة له وللتيار، انطلاقاً من حاجة مشتركة قد تجمعهم في الإنتخابات النيابية المقبلة. باسيل الذي يخوض هذه المعارك ضدّ معارضيه داخل «التيار» ويفتح على خصومه، لم يتوانَ عن اتهام «رفاقه» السابقين بأنّهم من الذين وسّخوا أيديهم.
خلال افتتاح بيت الشباب في جزين، يوم الأحد 21 نيسان، قال إنّ «جزين يجب أن تبقى قلعة التيار»، و»إنّ التيار ولبنان يُبنيان على الطاقة الايجابية». وتحدّث عن «وجود أياد بيضاء وأياد خشنة في التيار، وعندما يوسّخ أحد ما يديه داخل التيار يصبح خارجه… نحن في التيار لا نعرف لا اليدين ولا القلوب ولا الأخلاق الوسخة، ونأمل أن نربّي شبابنا على الأفكار التي تربّينا عليها ومن الطبيعي أن نقف ضد اي وجود غريب او طائفي».