إثر سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، تولى زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (المعروف سابقا بأبي محمد الجولاني) الرئاسة في سوريا.
وأعلن إعادة تشكيل الجيش وإلغاء التجنيد الإجباري، بهدف “إنشاء قوة مهنية تتكون من متطوعين يكون ولاؤهم للدولة”.
بعد سبعة أشهر على تغير النظام، لا تزال الميليشيات تهيمن على قوات الأمن السورية.
يشكل مقاتلو “هيئة تحرير الشام”، والفصائل التي عارضت الأسد، العمود الفقري للجيش السوري الجديد. ومعظمهم – أن لم يكونوا جميعا – يتبنون أيديولوجيا إسلامية متشددة تعد جزءا لا يتجزأ من هويتهم وولاءاتهم.
بالتالي، قد يجد هؤلاء صعوبة في التخلي عن هذه الأيديولوجيا لصالح عقيدة وطنية أو حيادية دينيا، تتشكل وفقها الجيوش النظامية عادة.
سلطت الأحداث الجارية حاليا في السويداء وقبلها في الساحل الغربي، الضوء مجددا على مسألة العقيدة داخل المؤسسة العسكرية الناشئة في سوريا.
الانتهاكات التي شهدتها تلك المناطق على أيدي قوات حكومية يجعل من المنطقي التشكيك في مهنية “المؤسسة العسكرية السورية” وولائها ومستقبلها.
إضافة إلى القتل والنهب والاختطاف، أساءت تلك القوات إلى معتقدات الدروز من خلال حلق شوارب شيوخ وشبان في السويداء قبل أيام وتصويرها في مقاطع فيديو.
يقول الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، أيمن جواد التميمي إن “إحدى أبرز المشكلات في الجيش وقوى الأمن الجديدة هي أن خلفية العديد من هذه الفصائل كانت تقوم على رؤية تركّز على السنّة في سوريا، وهي نظرة كانت طائفية إلى حد كبير”.
“هيئة تحرير الشام” مثلا، تأسست “على أساس الإسلام السلفي،” يقول التميمي.
سوّقت هذه الجماعة “نفسها كقوة تمثل مصالح السنّة في سوريا، وتعزز ذلك لاحقًا ببعض الشعبوية السنية التي ظهرت بعد سقوط النظام، خصوصا مع الربط الرمزي لسوريا الآن بإرث الدولة الأموية والخلافة الأموية”.
يشير التميمي إلى أن هيئة تحرير الشام “تصوّر سوريا ككيان يجب أن يُحكم تحت سلطة سنّية، وليس من قبل الأقليات”.
واندلعت المناوشات بين الدروز والسلطات السورية الجديدة مرات عدة هذا العام، لا سيما في جرمانا والسويداء، لكنها اتخذت طابعاً أكثر دموية في الساعات الماضية، بعد دخول الجيش السوري مع ميليشيات مسلحة إلى المحافظة ذات الغالبية الدرزية.
سجل المرصد مقتل 350 شخصا: “79 مقاتلا درزيا و55 مدنيا، مقابل 189 قتيلا من القوات الحكومية إضافة إلى 18 مسلحا من البدو”.
وفي مارس الماضي قتل أكثر من 1600 شخص في مجازر ارتكبتها قوات سورية وجماعات موالية للشرع، ضد مدنيين علويين في الساحل السوري، وفقا للمرصد.
وتعرض مسيحيو سوريا لهجمات ومضايقات خلال الأشهر الستة الماضية، كان أخرها هجوم انتحاري استهدف، كنيسة مار إلياس في دمشق يونيو الماضي.
نسبته السلطات إلى داعش.
ما الذي يعنيه ذلك؟
قبل الحديث عن مستقبل سوريا، من الضروري فهم طبيعة العقيدة العسكرية التي سادت في سوريا لعقود في عهد عائلة الأسد.
لم يكن الجيش السوري مجرد مؤسسة دفاعية، بل كان ركيزة أساسية لنظام شمولي تبنى أيديولوجية حزب البعث “القومية العربية الاشتراكية”، قائمة على الولاءات الشخصية والطائفية.
كانت الأولوية القصوى هي ولاء الجيش المطلق لعائلة الأسد وحزب البعث. إذ جرى بناء الهيكل القيادي على أساس الولاءات الشخصية، مع سيطرة العلويين على المناصب الرئيسية في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والوحدات الخاصة.
وتغلغل الجيش في جميع جوانب الحياة السورية، من الأمن إلى التعليم إلى الاقتصاد، في جو هيمنت عليه ثقافة عسكرية قمعية.
وبدلاً من التركيز على مواجهة التهديدات الخارجية، تركزت العقيدة العسكرية بشكل كبير على قمع أي معارضة داخلية، كما ظهر جليا في قمع الانتفاضات الشعبية.
ورغم الخطاب القومي للسلطة أنذاك، كان للطائفية دور خفي لكنه مؤثر في هيكلة الجيش وتوزيع مراكز السلطة فيه، ما عمق الانقسامات الاجتماعية.
هذا الإرث جعل نقطة الانطلاق لإعادة بناء جيش وطني أكثر صعوبة وتعقيدا. فالمؤسسة التي كان من المفترض أن تحمي الشعب تحولت إلى أداة لقمعه.
وهكذا فقد السوريون الثقة بجيشهم وبشرعيته.
مع سقوط النظام، برزت عدة قوى مسلحة على الساحة، أبرزها الفصائل التابعة للمعارضة السورية، مثل “هيئة تحرير الشام،” النصرة سابقا.
مقاتلو هذه الفصائل، ومنهم التابعون لأحمد الشرع، يختلفون بشكل كبير عن الجيش السوري التقليدي في البنية والعقيدة والولاء.
غالبا ما تكون الولاءات داخل هذه الميليشيات للقيادات الميدانية أو الشخصيات القيادية، أكثر من الولاء لمؤسسة وطنية غير مشخصنة.
وفقا للخبير العسكري أحمد الشريفي، وهو ضابط طيار سابق في الجيش العراقي، فإن تعدد الولاءات هي “أخطر معادلة يمكن أن يواجهها أي جيش نظامي في العالم”.
يقول الشريفي لموقع “الحرة” إن “ما نريده كعسكريين هو مقاتل يؤمن بشرف العسكرية وانتمائه للمؤسسة وليس شخصا يقاتل نزولا عند رغبة الحزب أو الجهة التي ينتمي لها”.
“جيش وطني”
في المحصلة، ومن أجل بناء جيش سوري وطني حقيقي، يجب أن ترتكز عقيدته العسكرية على مبادئ واضحة ومحددة، بعيدا عن إرث النظام السابق وولاءات الميليشيات.
يرى التميمي أن “حكومة الشرع مطالبة بإجراء المزيد لتعزيز رؤية مختلفة لسوريا عندما تقوم بتدريب ودمج الأفراد في الجيش والشرطة”.
“يجب أن تكون هناك رؤية قائمة على أن سوريا وطن لكل السوريين”.
ويبد التميمي خشيته من أن هذه “الرؤية لا يتم إيصالها فعليا في عمليات التدريب”.
ولا يبدو أن السلطات السورية الجديدة، يتابع التميمي، تبذل جهدا كافيا لاجتثاث أو محاسبة المتطرفين وغيرهم ممن تورطوا في انتهاكات” تُحسب الآن على الجيش السوري الجديد.
يمكن لسوريا أن تستفيد من تجارب دول أخرى مجاورة مرت بظروف مماثلة في دمج الفصائل المسلحة في جيوش وطنية بعد الصراعات، ومنها لبنان والعراق وأفغانستان.
ففي لبنان كانت تجربة دمج الميليشيات في الجيش اللبناني بعد الحرب الأهلية معقدة ومضنية، ولم تنجح بشكل كامل في القضاء على الولاءات الطائفية.
وفي العراق واجهت محاولات دمج الميليشيات الشيعية والسنية في الجيش العراقي بعد عام 2003 العديد من التحديات، وأدت في بعض الأحيان إلى تفاقم الانقسامات الطائفية داخل المؤسسة العسكرية.
يعتقد الشريفي أن هذه التجارب تُظهر أن بناء عقيدة وطنية راسخة وتطبيقها يتطلب أكثر من مجرد إصدار قرارات.
لا بد من “بناء توافق وطني وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع وإصلاح شامل لمؤسسات الدولة”.
ويرى الشريفي أن الوضع في سوريا، في ما يتعلق بالميليشيات، قد يكون أخطر مما هو في العراق، لعدة أسباب. يوضح أبرزها:
- العراق أساسا كان تحت الوصاية الدولية ما جعل إعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها العسكرية خاضعة لرعاية دولية وضعت شرطا رئيسيا يتمثل في تقييد الأيدولوجيات للأشخاص الذين يرغبون بالانضمام إلى المؤسسة العسكرية.
- ظلت هذه الوصاية تراقب أداء الميليشيات التي دخلت في مؤسسات الدولة في سياق ضبط وإشراف دولي.
- عنصر الوصاية الدولية غير متحقق في سوريا، ما يجعل المؤسسة العسكرية خادمة للأبعاد الحزبية، وهذا بدوره يؤدي لحصول خلل كبير في البنية العسكرية للبلاد.
وبعد تسلمه السلطة في ديسمبر الماضي، أعلن الشرع أن جميع الفصائل العسكرية سيتم دمجها في مؤسسة واحدة تحت إدارة وزارة الدفاع في الجيش السوري الجديد.
وأعلنت هيئة تحرير الشام، التي كانت الفصيل الأكثر تنظيما وهيمنة في شمال غرب سوريا قبل سقوط النظام، حل نفسها رسميا، وأصبح أعضاؤها يشكلون النواة الأساسية لوزارتي الدفاع والأمن في الحكومة الجديدة.
كذلك وافق “الجيش الوطني السوري”، وهو تحالف من فصائل معارضة مدعومة من تركيا، على الاندماج مع القوات المسلحة الجديدة للدولة.
لكن التميمي يقلل من أهمية البيانات والخطب الرسمية.
“لكي تثق الأقليات في قوات الأمن السورية، يجب أن تُظهر هذه القوات أن سلوكها مهني من خلال أفعالها، وليس فقط عبر البيانات”.