بعد نزوح امتد لأسابيع، عاد عبدالله عبدالله بلهفة إلى قريته عيترون الحدودية مع إسرائيل في جنوب لبنان، ليجد فجوات ضخمة خرقت جدران منزله، وأشجار حديقته أتت عليها النيران، فيما انتشرت شظايا القذائف من حولها. ويعجز عبدالله (50 عاماً) عن التعبير عن حزنه، إذ لم تقتصر الأضرار على منزله المؤلف من طبقتين، بل طالت أيضاً مصدرَي رزقه: جراره الزراعي والحافلة التي كان ينقل على متنها طلاب إحدى مدارس المنطقة.
ويقول الرجل، وهو أب لستة أبناء أكبرهم طالب جامعي “أي كلمات يمكن أن أقول؟ اعتدت على إجرام إسرائيل واستهدافها لمنازل المواطنين”. ويضع عبدالله يديه في جيبي بنطاله، ينظر من حوله بحسرة، ويردد “الجرار الزراعي تدمّر، والحافلة أيضاً، وهذا منزلي وقد انهارت أجزاء أساسية منه”. وعلى طول الحدود، بدت آثار القصف الإسرائيلي واضحة، من جدران منازل مدمرة أو زجاج نوافذ وأبواب محطمة، أو حفر في الأرض خلّفتها الغارات.
وسيعود عبدالله مرغماً إلى المنطقة التي نزح إليها بعد بدء التصعيد بين حزب الله اللبناني وإسرائيل تزامناً مع الحرب في قطاع غزة المحاصر التي اندلعت في السابع من أكتوبر. ومثله، عاد سكان لتفقد منازلهم وممتلكاتهم على وقع تحليق طائرات الاستطلاع، لكن كثراً لا يريدون البقاء خشية من استئناف القصف المتبادل بعد انتهاء هدنة الأيام الأربعة التي دخلت حيز التنفيذ الجمعة في قطاع غزة.
ومنذ سريان هدنة غزة صباح الجمعة، خيّم هدوء شبه تام في المنطقة الحدودية في جنوب لبنان. وقال مصدر مقرّب من حزب الله لفرانس برس إن الحزب الذي تربطه علاقة وثيقة بحركة حماس “سيلتزم بالهدنة طالما التزم بها الإسرائيليون”. وبعيد اندلاع الحرب في غزة قبل نحو 50 يوما، شنّ الحزب عمليات يومية ضد أهداف إسرائيلية قرب الحدود. وردّت الدولة العبرية بقصف مناطق حدودية قالت إنه يستهدف بنية تحتية للحزب.
وأسفر التصعيد في جنوب لبنان عن مقتل 109 أشخاص معظمهم مقاتلون في صفوف حزب الله و14 مدنياً على الأقل بينهم ثلاثة صحافيين. وأفادت السلطات الإسرائيلية بمقتل تسعة أشخاص بينهم ثلاثة مدنيين. وفي ساحات قرى حدودية عدة، رفع حزب الله ملصقات لعناصره الذين سقطوا “على طريق القدس” في الأسابيع الماضية. ودفع التصعيد بأكثر من 55 ألف شخص إلى النزوح، وفق الأمم المتحدة، غالبيتهم تركوا منازلهم في جنوب لبنان.
وفي بلدة ميس الجبل، تنفست فاطمة طه (55 عاماً) الصعداء حين وجدت أن الأضرار الناتجة عن قصف قريب اقتصرت على زجاج نوافذ منزلها. وتقول “عدنا إلى هنا حين أعلنوا الهدنة، لكن العالم (الناس) كلها خائفة، وهناك بيوت دُمِّرت”. وتضيف “البعض عاد فقط من أجل موسم قطاف الزيتون، لكنهم قد لا يبقون هنا” خشية من تجدد القصف.
وفي غالبية القرى والبلدات، رفعت السلطات المحلية لافتات تحذر المواطنين من سلوك طرقات مواجهة لمواقع الجيش الإسرائيلي على الجانب الآخر من الحدود، وأخرى تنصح المزارعين بتجنب قطاف الزيتون خصوصاً في الحقول القريبة من الحدود وخشية من آثار قصف بالقنابل الفوسفورية شنته القوات الإسرائيلية على المنطقة، وفق سكان.
وتتهم السلطات اللبنانية ومنظمات حقوقية دولية القوات الإسرائيلية باستخدام القنابل الفوسفورية خلال قصفها للمناطق الحدودية اللبنانية. وفي العديد من القرى، يراقب سكان عن بعد حقول الزيتون القريبة من الحدود، ويعرب البعض عن خشيتهم من الاقتراب خوفاً من إطلاق الإسرائيليين النار باتجاههم. ويأمل أحدهم في أن تهطل الأمطار “لتغسل الزيتون من آثار القصف الفوسفوري”.
وفي بلدة كفركلا الحدودية، عاد حسين شيت لساعات معدودة لتفقد منزله وأخذ ما يحتاج منه، خشية من استئناف التصعيد بمجرد انتهاء الهدنة. ويقول “سنأخذ بعض الحاجيات ونغادر ليومين لننتظر ماذا تحمل لنا الأيام المقبلة”. وعلى وقع هدير طائرات الاستطلاع، ينظف يحيى أحمد (62 عاماً) آثار الأضرار التي طالت استراحته التي تبعد أمتارا فقط عن الجدار الحدودي في كفركلا، أملاً في أن يفتح أبوابها مجدداً لأهل البلدة الذين طالما توافدوا إليها ليتظللوا تحت شجرة الجوز في باحتها.
ويقول “أنظف تحت شجرة الجوز، وأريد أن أضع الطاولات مجدداً، فقد اشتقت للجلوس هنا، كنت أحلم بها طوال الوقت”. ولم يغادر أحمد منزله، لكن القصف أرغمه على إقفال استراحته التي تساقط زجاج نوافذها وواجهتها جراء القصف. ويجزم بالقول “لم أغادر ولن أغادر. هذه بلدنا”. وخرقت هدوء الحدود حوادث محدودة.
وأطلق الجيش الإسرائيلي، السبت، النار باتجاه سيارة مدنية قرب الحدود جنوب لبنان، دون وقوع إصابات بشرية، في وقت كانت المنطقة تشهد هدوءا حذرا لليوم الثاني على التوالي. وقالت وكالة الإعلام اللبنانية الرسمية إن “قوات العدو الإسرائيلي أطلقت النار على سيارة من نوع رابيد تعود للمواطن م.ع في منطقة الوزاني بقضاء مرجعيون”.
وأضافت الوكالة أن “خمس طلقات أصابت السيارة من دون إصابة السائق الذي نجا بأعجوبة، فيما حضرت دورية من الجيش اللبناني وقامت بإجلاء المواطن من المكان”. وفي حادث آخر، أفادت الوكالة اللبنانية أن الجيش الإسرائيلي أطلق النار في الهواء “ترهيبا” للمزارعين الذين يعملون في أرضهم بمنطقة وادي هونين الحدودية. كما عكّر الهدوء في الجنوب اللبناني صوت انفجار صاروخ اعتراضي (إسرائيلي) في أجواء بلدتي ميس الجبل وبليدا بقضاء مرجعيون عند الساعة 2:30 فجرا (بالتوقيت المحلي)، وفقا للوكالة.
بدوره، أعلن الجيش الإسرائيلي اعتراضه جسما مشبوها قادما من جنوب لبنان. وقال الجيش في بيان مقتضب “بعد إطلاق صافرات الإنذار شمال البلاد، نجحت مقاتلات الدفاع الجوي في اعتراض جسم جوي مشبوه قادم من الأراضي اللبنانية”. ومنذ صباح الجمعة، انعكس سريان الهدنة في غزة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، حيث يسود الهدوء المنطقة لليوم الثاني على التوالي بعد أكثر من شهر ونصف من القصف المتبادل بين حزب الله وفصائل فلسطينية من جهة، والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى.
وفي السياق، تشهد المناطق الجنوبية اللبنانية المحاذية للحدود منذ الجمعة عودة لمئات العائلات التي نزحت إلى مناطق أكثر أمناً، فيما لم تصدر أي إحصاءات رسمية في لبنان حول عدد المنازل المتضررة جراء القصف الإسرائيلي.
وأدى التصعيد العسكري مع إسرائيل مؤخراً إلى نزوح 30 ألف شخص من سكان القرى اللبنانية المتاخمة للحدود الجنوبية، باتجاه مناطق أكثر أمناً، كما أقفلت المدارس والمعاهد الحكومية والخاصة في المناطق الحدودية الجنوبية. ودخلت هدنة إنسانية مؤقتة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة حيز التنفيذ الجمعة، بعد 48 يوما من الحرب على القطاع.