مشكلة مزمنة
أزمة صندوق الضمان الاجتماعي في لبنان ليست بالجديدة، ومن غير المنصف القول إن التعثر ناجم عن الانهيار الاقتصادي، لأن مشكلاته قديمة ومزمنة. فمن ناحية هناك مشكلة بنيوية، إذ بقيت بعض فروع الضمان حبراً على ورق بفعل عدم انتقالها إلى حيز التطبيق، على غرار “طوارئ العمل” و”الأمراض المهنية”، فيما دخلت حيز التنفيذ فروع نظام “التعويضات العائلية”، وفرع نظام “المرض والأمومة”، وفرع نظام “تعويض نهاية الخدمة” الذي بدأ العمل به في الأول من مايو (أيار) 1965، ناهيك بغياب نظام التقاعد عن مندرجات الضمان الاجتماعي الذي يستفيد منه القطاع الخاص.
تؤكد أوساط الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أن هناك محاولات لتحسين التقديمات للمستفيدين من أجل تخفيف الأعباء عن المواطنين، وعلى قدر الإمكانات المالية المتاحة. من جهته يقدم الباحث في “مرصد حقوق العمال” عصام ريدان تشخيصاً لوضع الضمان الاجتماعي في لبنان، ففي عام 2022 تراجعت التقديمات إلى ما دون 10 في المئة لناحية الطبابة والاستشفاء، ولكن خلال العام الحالي بادر الصندوق لإجراءات منفصلة وغير منظمة، حين وضع تعديلين على مستوى تحديد أسعار الخدمات، وأعطيت الأولوية لمرضى غسيل الكلى إذ يحتاج البعض منهم إلى 13 جلسة شهرياً.
الفئات الأكثر هشاشة
يعتبر المستفيدون من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من الشرائح “الأكثر هشاشة” في لبنان كسائقي سيارات الأجرة، وطلاب الجامعة اللبنانية، وغيرهم من الأجراء والمياومين، فيما تتجه الفئات الميسورة للتعاقد مع شركات التأمين الخاصة التي تحدد أسعار البوالص بالدولار. يلاحظ عصام ريدان تراجعاً كبيراً بأعداد من يستشفي على نفقة الضمان بمعدل 75 في المئة، ففي الوقت السابق للأزمة بلغ المستفيدون نحو 400 ألف مريض شهرياً، وتراجع العدد إلى ما دون 100 ألف بسبب عدم قدرة المريض على تغطية الفروق المادية، إذ لم يعد يدخل إلى المستشفى إلا المصابون بالأعراض الخطرة للغاية.
يؤكد ريدان وجود خلل على مستوى التوازن المالي للمؤسسة، وانهيار قيمة المدخرات الخاصة بالصندوق والديون المترتبة على الدولة اللبنانية التي تبلغ قرابة سبعة مليارات ليرة لبنانية. فمن جهة الدولة تتلكأ، ومن جهة أخرى تخسر تلك الأموال قيمتها، فهي لم تعد تساوي أكثر من 50 ألف دولار أميركي بفعل التضخم، وارتفاع سعر الصرف من 1500 إلى مستوى 90 ألف ليرة لبنانية. يضيف ريدان “لم يتم احترام القانون الذي يمنع التضييق على أموال الضمان، أو إجراء اقتطاعات منها، ولكن (الهيركات) أصبح أمراً واقعاً”.
يشدد ريدان على أن أزمة الضمان الاجتماعي قديمة، ولم يتمكن النظام من تطوير نفسه خلال العقود الثلاثة الماضية، إذ “ما زال متخلفاً” وحصر تقديماته بثلاثة أفرع، ولم ينتقل لتطبيق نظام “طوارئ العمل” و”الأمراض المهنية”، كما أنه لم يقم بإصلاحات في نظام التقاعد، أو تعويضات البطالة، ونظام العجز، وتعويض الأمومة، مضيفاً “جاءت الأزمة المالية لتعمق من معاناة الضمان والمضمونين”.
الدولرة تفاقم آلام المضمون
يشهد لبنان “دولرة” شاملة للأنشطة الاقتصادية، وانسحب هذا الأمر على الطبابة والاستشفاء، إذ تحدد التسعيرات والفواتير بالدولار سواء لأسعار العمليات الجراحية أو كلفة التشخيص الطبي والمستلزمات الطبية وكذلك الأدوية. في المقابل لا يحظى الضمان بالتوازن المالي الكافي لمواكبة التغيير العميق الذي حصل على مستوى سعر الصرف.
يلفت عصام ريدان إلى أن الضمان فقد 95 في المئة من قيمته الفعلية، فعلى مستوى التقديمات الطبية “ما زالت أسعار بعض تقديمات الضمان على مستوى 1500 ليرة لبنانية، فيما رفع سعر 900 دواء فقط للعلاجات المزمنة، إذ زاد سعر دواء (الجنيريك) بمعدل 20 ضعفاً، ودواء الماركة الأصلية بين 10 و15 ضعفاً، ولكن هذا لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة بسبب الفارق الكبير بينها وبين سعر السوق الحرة، لأن صرف الدولار تضاعف 60 ضعفاً، لذلك ما زلنا بعيدين عن تقديم مساهمة فعلية”، ومساهمة الضمان في المجال الطبي ما زالت ضئيلة، ففي حال الجراحات تتراوح مساهمة الضمان ما بين 15و 20 في المئة، فيما يجب أن تكون مبدئياً 90 في المئة، أما في حال احتياج المريض إلى مستلزمات طبية فتنخفض التقديمات إلى ما دون 10 في المئة لأن تسعيرتها بالدولار النقدي. وعلى مستوى التقديمات الاجتماعية، أي التعويضات العائلية ونظام نهاية الخدمة، فإن “الوضع حرج للغاية، ولا تتجاوز أربعة في المئة من قيمتها الحقيقية” على حد تعبير ريدان.
نظام التقاعد والانتظار الطويل
خلال السنوات الأخيرة برزت محاولات متعددة على مستوى تطوير التشريع الاجتماعي في لبنان بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، إلا أن هذه المحاولات ما زالت “محض نظرية”. تشير أوساط وزارة العمل، وهي سلطة الوصاية على الضمان الاجتماعي، إلى جهود بعض اللجان لوضع رؤية أولية لنظام تقاعد، إلا أنه “لم يبصر النور بسبب عراقيل كثيرة، وتحديداً على مستوى التمويل”، وكذلك عدم انتظام العمل التشريعي أو عمل المؤسسات، مذكرة بمحاولات تطوير قانون العمل منذ تولي بطرس حرب وكميل أبو سليمان وآخرين مقاليد الوزارة. ولم تبلغ مقترحات القوانين مرحلة الإقرار، وتلفت إلى وجود نظام التقاعد في بعض القوانين المتفرقة، أو حتى في قانون الضمان الاجتماعي، الذي ينص على نظام نهاية الخدمة منذ ستينيات القرن الماضي، واللجوء إليه كبديل عن التعويضات التي فقدت قيمتها في ظل انهيار العملة، إلا أن “التعطيل يصيب المؤسسات كافة، ويجب انتظار الفرصة السانحة”.
ضرورة التطوير
تتجه غالبية الدول نحو إصلاح نظام التقاعد ودراسة الكلفة. ويشير المتخصص في مجال التشريع الاجتماعي جوزيف خليفة إلى أن “هناك حرصاً على وضع قواعد مرنة تواكب التطور، إلا أن لبنان ما زال متأخراً جداً على مستوى التشريع”. يعتقد خليفة بوجوب اعتماد مجموعة من المعايير لتحقيق استدامة النظام، إذ لا بد من دراسة الخصائص الديموغرافية وأعداد المستفيدين، وكذلك غير المستفيدين من نظام الضمان، وأن يلحظ احتمال إطالة فترة العمل ورفع سن التقاعد ليصل ربما إلى الـ70.
يلفت خليفة إلى ضرورة مراقبة الحراك الاجتماعي، وأثر تحديد سن التقاعد والتقديمات. ففي فرنسا خلق رفع السن العمل من أجل تخفيض سن التقاعد أزمة كبيرة. أما في اليابان فينظر الباحثون إلى متوسط أمد الحياة للمواطن، إذ لاحظوا أن متوسط سن المرأة 87 سنة، والرجل 82 سنة، لذا فإن التقاعد المبكر سيؤدي إلى أعباء كبيرة، لأن “هناك ضرورة لتتناسب التقديمات مع كلفة المعيشة، لئلا يعيش المتقاعد حياة الفقراء في ظل الغلاء والتضخم”. من هنا يخلص جوزيف خليفة إلى ضرورة الإصلاح المستمر لأنظمة التقاعد، للتكيف مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية، “لأن الجمود عيب أصاب نظام التقاعد في القطاع العام اللبناني، ولم يدخل عليه إصلاحات جوهرية”.