كانت نايا في ملعب مدرسة القلبين الأقدسين- الحدث في محافظة جبل لبنان، مع رفاقها في مخيم “Colonie” صيفي في الثالث من الشهر الجاري، حين أصيبت برصاصة مُبتهج بإعلان نتائج امتحانات الثانوية العامة، استقرت في دماغها مدخلة إياها في غيبوبة عجز الأطباء عن علاجها، فعاشت على أجهزة التنفس إلى أن فارقت الحياة.
تسبّب الرصاص الطائش بإزهاق أرواح عدد كبير من الأبرياء على مرّ السنوات في لبنان، والمتوسط السنوي لضحاياه مقلق بحسب ما وصفت “الدولية للمعلومات”، حيث كشف الباحث فيها، محمد شمس الدين، أن العدد يبلغ 8 ضحايا و15 جريحاً استناداً إلى وسائل الإعلام والبيانات الصادرة عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من عام 2013 إلى عام 2023.
وأكد شمس الدين، عبر فيديو نشر عبر حساب “الدولية للمعلومات” على منصة “يوتيوب”، أن معدّل هذه الحوادث ارتفع من 7 إلى 8 ضحايا سنوياً، وفي حديث مع موقع “الحرة” لفت إلى أنه “في العام الماضي تم تسجيل تسع ضحايا أما هذا العام فقد سقط ست ضحايا حتى الآن”.
قتل الطفولة
نايا ليست الطفلة الوحيدة في لبنان التي غدرتها رصاصات الأفراح والأتراح التي يطلقها لبنانيون في مختلف المناسبات، فقبل سنتين دفعت الطفلة، تايونا الصراف، ابنة بلدة منيارة – عكار، حياتها نتيجة رصاصة طائشة لم تترك لها مجالاً لمقاومة الموت، وفي ذات العام أصيبت ابنة بلدة ببنين عكار، ذات الثماني سنوات حينها، سهيلة الكسار، برصاصة اخترقت عمودها الفقري حين كانت تشتري المثلّجات بالقرب من منزلها.
سنتان وسهيلة تقاوم الشلل في رحلة علاج بين لبنان والأردن، فبعد أن تخلّت السلطة اللبنانية عن واجبها تجاهها، تكفّل الملك الأردني عبد الله الثاني بعلاجها، حيث قصدت المملكة بعد ستة أشهر من إصابتها للخضوع لعملية جراحية، ومنذ أسبوعين توجهت إلى هناك من جديد حيث أجري لها عملية زرع خلايا جذعية، وفي اتصال أجراه موقع “الحرة” مع والدها محمد، قال إن “الرصاصة أصابتنا جميعا، فقد غيرت حياة عائلة بأكملها، فبعد أن كان همي تأمين ما يحتاجه أولادي الستة، ركّزت كل اهتمامي على سهيلة، التي لولا ملك الأردن مشكورا لما أعلم كيف كان وضعها الصحي اليوم”.
يشرح محمد كيف تراجع وضعه المادي منذ إصابة ابنته، ويقول “كنت أتاجر بالسيارات، ولتأمين مع تحتاجه طفلتي في لبنان من علاج فيزيائي وأدوية وتنقلات من عكار إلى طرابلس، اضطررت لبيع آخر سيارة أملكها، فكلفة جلسة العلاج الفيزيائي 15 دولار وهي تحتاج إلى ثلاث جلسات أسبوعياً”.
رغم كل الصعوبات التي تمر بها، تتابع سهيلة تعليمها في مدرسة خاصة، حيث خصصت الإدارة موظفة للاهتمام بها، ويقول محمد “صغيرتي تحاول اظهار أنها قوية، لكن عينيها تكشفان مدى الحزن الذي تعيشه لا سيما عندما ترى أطفالاً في سنها يلعبون ويركضون، فلا شك أن الرصاصة خطفت طفولتها، من دون أن يدفع المجرم ثمن جريمته، فلم توقفه القوى الأمنية ولم يحرك المسؤولون ساكناً، لا بل لم يكلّفون خاطرهم بإجراء اتصال للاطمئنان عنها، رغم أن ما حصل من مسؤوليتهم لعدم وضعهم حداً للسلاح المتفلت وردّعهم لظاهرة اطلاق النار المتجذرة في المجتمع اللبناني”.
ولأن عكار ليست على خريطة اهتمام السياسيين اللبنانيين منذ زمن بعيد، حيث إنها محرومة حتى من مركز للعلاج الفيزيائي، أنشأ محمد جمعية “فراشة لبنان” خصص لها مكاناً في مبنى يملكه في بلدته ببنين، هدفها خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة، ويقول ” آمل أن تتكفل منظمة أممية بالمعدات كي ننطلق في مبادراتنا الإنسانية”.
رسائل من نار
لولا القدرة الإلهية لكان سقط كل يوم عدد كبير ضحية الجهل وفائض القوة وغياب المحاسبة، بحسب ما يقوله رئيس اتحاد روابط مخاتير عكار، مختار ببنين، زاهر الكسار، لافتاً إلى أن “الخطورة الكبرى لا تتعلق فقط بإطلاق النار في كل المناسبات، بل بمن يقدم على ذلك، بمعنى أنهم أشخاص ليس لديهم خبرة بحمل السلاح، فبدلاً من أن يطلقوا الرصاص في الهواء يصيبون الناس والممتلكات العامة والخاصة”.
والأفظع من ذلك كما يقول المختار لموقع “الحرة” “أننا في بلد يعجز فيه الفقير عن إيجاد سرير في المستشفيات الحكومية وعن تحمل الوزارة المعنية كلفة استشفائه، في وقت لا يبالي المسؤولون بما يعانيه الشعب على كافة الصعد”.
تعود ظاهرة إطلاق الرصاص في لبنان بحسب مؤسس جمعية “سايف سايد” التي تعنى بالتوعية حول الرصاص الطائش والسلاح المتفلت، حسين ياغي إلى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان وسيلة للتواصل بين القرى، فاطلاق رصاصتين في الهواء كان يعني أن هناك حالة وفاة أما الثلاث طلقات فكانت تشير إلى دعوة بقية البلدات لمناسبة فرح، وذلك لعدم وجود هواتف وغيرها من وسائل ارسال الرسائل”.
ومع السنوات تطور الأمر بحسب ما يشير ياغي في حديث لموقع “الحرة” حيث “بدأ إطلاق النار عند وفاة شخصيات مهمة، وبعد الحرب الأهلية انتشرت هذه الظاهرة بشكل كبير في كل المناطق وإن بدرجات متفاوتة، وذلك نتيجة انتشار السلاح بأيدي المواطنين”.
وللحد من هذه الظاهرة، أقرّ في العام 2016 القانون رقم 71 بهدف تشديد عقوبات مطلقي النار، حيث نص على حبس كل من أقدم لأي سبب كان على إطلاق عيارات نارية في الهواء من سلاح حربي مرخص أو غير مرخص به، من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من ثمانية أضعاف إلى 10 أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور. ويصادر السلاح في جميع الأحوال ويمنع الجاني من الاستحصال على رخصة أسلحة مدى الحياة.
أما إذا أدى إطلاق النار إلى مرض أو تعطيل شخص عن العمل مدة تقل عن عشرة أيام، عوقب المجرم بالحبس من تسعة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من عشرة أضعاف إلى خمسة عشر ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجور، وإذا تجاوز المرض أو التعطيل عن العمل العشرة أيام قضي بعقوبة الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات فضلاً عن الغرامة السابق ذكرها.
وإذا أدى إطلاق النار الى قطع أو استئصال عضو أو بتر أحد الأطراف أو إلى تعطيل أحدهما أو تعطيل إحدى الحواس عن العمل أو تسبب في إحداث تشويه جسيم أو أية عاهة أخرى دائمة أو لها مظهر العاهة الدائمة، عوقب المجرم بالأشغال الشاقة المؤقتة عشر سنوات على الأكثر وبغرامة من خمسة عشر ضعفاً إلى عشرين ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجور.
وفي حال أدى إطلاق النار إلى الموت، يعاقب الجاني بالأشغال الشاقة المؤقتة، لا تقل عن عشر سنوات ولا تتجاوز الخمسة عشر سنة وبغرامة من عشرين إلى خمسة وعشرين ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجور.
“أسلحة” المواجهة
والأربعاء تقدم النائب، أديب عبد المسيح، باقتراح قانون معجل مكرر إلى المجلس النيابي تحت مسمى “قانون نايا حنا”، يهدف إلى “تغليظ عقوبة مطلقي العيارات النارية في الهواء وشمولها للشركاء والمحرّضين والمسهّلين”.
لكن القضاء على ظاهرة إطلاق النار لا يتطلب إقرار قانون جديد، إذ يكفي كما يقول ياغي تطبيق القانون الحالي، ويشرح “ما نحتاجه بالفعل هو أن يلعب القضاء دوره وأن تتوقف التدخلات السياسية لإطلاق سراح مطلقي النار” لافتاً إلى أنه “عندما تم رفع الغطاء السياسي عن مطلقي النار في بعض بلدات البقاع، وتدخل الجيش اللبناني بقوة لتوقيف لكل من تسوّل له نفسه الاقدام على ذلك إضافة إلى نبذ الأهالي له أدى إلى تراجع هذه الظاهرة بشكل كبير جداً”.
ومما ساهم كذلك في تراجع هذه الظاهرة في بعض البلدات، بحسب ياغي “ارتفاع أسعار الرصاص وانتشار ألواح الطاقة الشمسية على أسطح المباني، وكذلك حملات التوعية التي نقوم بها كجمعية منذ عام 2016” مشدداً على ضرورة الاهتمام بهذه القضية ليس فقط عند سقوط ضحية، بل بشكل دائم وذلك إلى حين القضاء عليها.
كذلك يؤكد شمس الدين أن هناك تراخ بتطبيق القانون “الأمر الذي يقف خلف استمرار هذه الظاهرة وزيادة أعداد ضحاياها”، ويقول “إضافة إلى أن مطلقي الرصاص مدعومون وبالتالي لا يشكل القانون رادعا لهم، فإن السلاح متلفت في أيدي المواطنين” وطرح الباحث في الدولية مثالاً على ذلك، إطلاق النار على مرأى من القوى الأمنية خلال مناسبات التشييع من دون توقيف من أقدموا على ذلك”.
لكن مصدر في قوى الأمن الداخلي يؤكد لموقع “الحرة” أن القضية ليست أمنية فقط، “هي آفة اجتماعية تحتاج إلى علاج من خلال المجتمع، أي عبر الفعاليات ورجال الدين والمدارس والجمعيات، وعبر اعتبار كل مواطن نفسه معنياً بها، إضافة إلى الحاجة لتطوير القوانين”.