تختلف التحليلات الإقليمية لتطورات الوضع في سوريا ولبنان، وذلك انطلاقاً من تطورات الشرق الأوسط، فيما الأطراف السياسية في لبنان لا تزال تعول على انعكاسات اللقاء السعودي-الإيراني مؤخراً، وإمكانية أن تنعكس على الملف اللبناني الرئاسي، بات لدى الأطراف المعارضة في لبنان نظرة تشاؤمية تنطوي على عدم اهتمام فعلي بلبنان من قبل المجتمع الدولي، وخاصة في ظل تعدد الأولويات لتلك الدول، ولا أحد جاهز للدخول في تفاصيل الملف اللبناني.
وبات لدى الأطراف السياسية نظرة مرتبطة بالواقع الحاصل في المنطقة أهمها التحشيد الأميركي وتعزيز الحضور العسكري في الخليج وسوريا والعراق، والأهم في محيط مضيقي هرمز وباب المندب، وتعزيز واشنطن لقواتها المتمركزة في شرق سوريا، مع التحضير الحاصل لعملية إقفال طريق الإمداد الإيراني من بوابة التنف.
وربطاً بتلك المعطيات تتوقع الأطراف الإقليمية حصول المزيد من التطورات، في إطار التفاوض الأميركي مع إيران بعد حصول اتفاق شفهي برعاية قطرية، على اعتبار أن ما يجري يهدف لزيادة الضغط على إيران ودفعها للقبول بصيغة الاتفاق النووي قبيل الدخول في المنازلة الانتخابية الأميركية بين الديمقراطيين والجمهوريين.
وثمة اعتقاد جازم لدى بعض الدوائر الدبلوماسية تشير إلى أن التوتر المتصاعد والمصحوب بتعزيزات عسكرية على الساحة السورية والذي يترافق مع أحداث داخلية في دير الزور والسويداء ودرعا وحلب، لا يمكن تصنيفه ووضعه في إطار عادي ومحدود. فما يحصل يأتي في إطار تحولات السياسة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، وتجاه نظرة واشنطن إلى سوريا والعراق خصوصا، وبالتالي في إطار الضغوط والسعي إلى توسيع مساحات النفوذ الأميركية، ولو أن ذلك قد لا يؤدي إلى الدخول في حرب مباشرة كما يعتقد البعض.
ولم يعد سراً أنّ مراكز صنع القرار الأميركية كانت قد أجرت إعادة تقويم شاملة لخطتها القاضية بالانسحاب قدر الإمكان من ساحات الشرق الأوسط. حيث باشرت الإدارة الديموقراطية في بداية عهد بايدن بالتخفيف من حضورها العسكري وسحب أسلحتها المتطورة إضافة إلى قوتها البحرية العاتية ولا سيما حاملات الطائرات ووجهتها لتصبح في خدمة خطة انتشار جديدة تهدف إلى احتواء التمدد الصيني على المساحة الدولية الأوسع.
لكن إدارة بايدن سرعان ما اكتشفت الخطأ الاستراتيجي الفادح وبدأت استدارتها لإعادة تثبيت حضورها في الشرق الأوسط وعدم ترك فراغات كانت تعمل روسيا والصين على ملئها بسرعة الريح، لكن هذه العودة لم تحصل بالسلاسة التي توقعتها الولايات المتحدة، بدءاً من دول الخليج العربي وفي طليعتها السعودية التي وجدت نفسها مكشوفة أمنياً وعسكرياً في مواجهة إيران، بعد أن لمست أن واشنطن تركتها تواجه الضربات الحوثية المستمرة، ووصولاً إلى العراق وسوريا ولبنان حيث سارعت إيران إلى توسيع دائرة نفوذها، من خلال إحكام قبضتها على النظم السياسية عبر حزب الله والمليشيات وترسيخ حضورها الميداني وتغيير طبيعة الديموغرافية.
وكان الشعور السعودي أن هناك تفاهمات غير معلنة بين واشنطن وطهران أمنتها كواليس التفاوض المفتوحة عبر سلطنة عمان وقطر، لذا باشرت السعودية دراسة مشروع يؤدي إلى نقل خطوط إمدادات النفط من مياه الخليج العربي حيث حضور إيران البحري على المضائق، إلى الساحل الشرقي لإفريقيا وتحديدا في اتجاه المرافئ السودانية.
لكن الحرب الحاصلة بين جناحي الجيش، أدت إلى ضرب المشروع، وظهر بعدها الدعم الإيراني لأطراف النزاع السوداني، بهدف ضرب الجهود السعودية لوقف الحرب، لكن الرياض التي تحمل مخاوف كثيرة من سياسة بايدن الشرق أوسطية باتت تدرك في الوقت نفسه أن المنطقة تحت سيطرة الوجود الأمني والعسكري الأميركي.
وأمام هذه الحالة المستعصية من التفاهم بين بايدن وبن سلمان، وغياب الثقة بين السعودية والإدارة الأميركية وتحديداً في الإطار الدبلوماسي والأمني، أعادت واشنطن طرح استراتيجيتها الجديدة القائمة على إعادة تثبيت حضورها في الشرق الأوسط والخليج، وبات من الطبيعي الاعتقاد أن الدول الخليجية لا تثق بجدية أي إدارة ديموقراطية في مشروع مواجهة التمدد الإيراني والحد من توسع نفوذها الإقليمي، وهي متوجسة من تقاطع المصالح السرية بين الطرفين. ولذلك فإن الدول الخليجية سيرتفع منسوب توجسها مع ظهور تفاهمات بين واشنطن وطهران حيال الملف النووي كما حصل خلال المراحل الماضية.
لذلك وجدت القيادة السعودية الجديدة في تفاهمها مع طهران برعاية بكين ورقة قوية لمصلحتها، ولطالما ردد دبلوماسيون سعوديون أن اليمن يشكل ساحة اختبار للنيات الإيرانية قبل الانتقال إلى سوريا والعراق ولبنان، وهذا الكلام السعودي ليس موجها فقط في اتجاه إيران بل ضمناً في اتجاه واشنطن وعلى اعتبار أن السعودية لن تساهم في سوريا ولبنان قبل ضمان أمنها ومصالحها في اليمن وبحر الخليج.
وثمة اعتقاد أن السعودية تدرك الحاجة الاستراتيجية للساحتين السورية واللبنانية للجانبين الأميركي والإيراني، خصوصا لجهة تأثيرهما المباشر على الساحة الاسرائيلية. وبالتالي، فإن السعودية التي تخشى موافقة أميركية على حصة لإيران في ممرات النفط البحرية، تلوح بأنها لن تقدم على أي مساعدة مالية أو سياسية في سوريا ولبنان في وجه النفوذ الإيراني.
لذلك أعادت إدارة بايدن طرح مشروع جديد في علاقاتها مع الرياض ضمن صفقة أوسع تشمل التطبيع بين الرياض وتل أبيب، في مقابل منح السعودية الموافقة على إنشاء مشروع نووي سلمي، وتوقيع اتفاق عسكري أميركي-سعودي يسمح بنشاط مكثف للجيش الأميركي وتوفير معدات عسكرية متطورة تكنولوجياً، وأن تلتزم إسرائيل بسياسة أكثر مرونة تجاه مطالب سلطة منظمة التحرير لجهة الذهاب لخطوات عملية تثبت من خلاله حل الدولتين وتقسيم القدس.
وفي هذا الإطار اتجهت إدارة بايدن في مشروع تكثيف حضورها في العراق وسوريا لجهة إعادة خلق توازن جديد لمصلحة النفوذ الأميركي على حساب النفوذ الإيراني الواسع، ولذلك أعادت واشنطن ترتيب أوراق ضغطها في سوريا تحت سقف الاتفاق الشفوي الذي أنجزته مع طهران حول الملف النووي خلال الأسابيع الماضية.
وهي أعطت في خطتها الجديدة دوراً واسعاً لأنقرة، وهو ما ظهر خلال الاجتماع الأخير لدول حلف شمال الأطلسي، والذي نتجت منه أيضا خطوة غير مألوفة على مستوى دول حلف الناتو والتي تقضي بفتح مكتب لها في العاصمة الأردنية عمان. ومن المنطقي الاعتقاد أن هذه الخطوة تأتي في سياق الحد من النفوذ الإيراني في سوريا.
واستكملت واشنطن حركتها برفع مستوى الضغوط العسكرية ووضع اليد على معبر البوكمال عبر قطع الطريق البرية التي تربط إيران بسوريا ولبنان. إضافة بين تركيا والمجموعات الانفصالية الكردية، وتسعى واشنطن لدعم المجموعات السورية التي كانت قد عملت على تدريبها في الشهور الماضية، ويجري تكليفها بمهمات داخل سوريا ورفع مستوى الضغوط الاقتصادية لمواكبة التحركات الشعبية نتيجة الأوضاع الحياتية الصعبة والقاسية، والعمل على توظيف هذه التحركات في الإطار السياسي لتحجيم النظام بعد موجة التطبيع العربي معه.
ولكن الاعتقاد بإمكانية انزلاق الأمور لحرب مباشرة مفتوحة، هو اعتقاد غير واقعي بتاتاً، ويبدو أن المسار الذي ستأخذه الضغوط في سوريا سيكون لها تأثير مباشر على لبنان، خصوصا مع ارتفاع مستوى القلق الأميركي والإسرائيلي لتعاظم القوة العسكرية لحزب الله ومعه حركتا حماس والجهاد عند الحدود اللبنانية، وهو ما يعزز الاعتقاد بتسريع الحراك الأميركي باتجاه لبنان لإنجاز التسوية السياسية والرئاسية، وهذا السياق بحاجة لمعرفة مآلات التطورات الحاصلة والضاغطة في سوريا. وقد تتدحرج الأمور خلال أسابيع، وقد تطول لأشهر متواصلة.