“كاذبة، لديك سوابق” وغيرها من العبارات التي تتردد على مسامع نورا التي دخلت السجن للمرة الأولى قبل ثماني سنوات، لتعود وتدخله مرتين إضافيتين بذات التهمة وهي السرقة، وتشرح “في تلك الفترة كنت أملك محلا لبيع الملابس، وبعد أن وظفت قاصراً لدي اكتشفت أنها تسرق التجار الذين اشتري منهم البضائع، عارضتها بداية إلا أنها تمكنت من إقناعي بمشاركتها في ذلك، وعندما وجدت أن الأموال التي أدفعها لهم أعاود استردادها من دون أن يشعروا أعجبني الأمر، ومع الوقت وسّعت دائرة سرقاتي”.
من سرقة أموال وبضائع التجار إلى سرقة الهواتف وحقائب الناس، فتناول الطعام في المطاعم والهرب من دون دفع الفاتورة، عمليات لا تعد ولا تحصى نفذتها نورا وشريكتها قبل أن يكشف أمرهما، وتشرح لموقع “الحرة” لحظة وقوعها في قبضة الأمن “في احدى المرات سرقت شريكتي هاتف فتاة كانت على معرفة بقريبتي، فطلبت مني الأخيرة إعادته، ولكي اتجنب الدخول بإشكالات قمت بذلك حيث سلمته لشخص أرسلته هي، وإذ به يطلب مني ان نخرج سوية لاحتساء القهوة، وعندما رفضت تفاجأت بعناصر أمنية حضرت إلى منزلي وأوقفتني”.
بعد قضائهن مدة عقوبتهن، “تخرج السجينات من السجن في لبنان فيصدمن بعقوبة من نوع آخر بانتظارهن، هي عقوبة المجتمع التي تجردهن من قيمهن الاجتماعية، تنبذهن وتحتقرهن ملصقة وصمة العار بهن”، بحسب ما تقوله أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية البروفيسورة، أديبة حمدان.
وتضيف في حديث لموقع “الحرة”، “يكتشف من يطلق سراحهن إنهن عاجزات عن ممارسة أبسط الأنشطة مثل اللقاء بالجيران والأقارب، والعمل في مهن متعددة، هذا العنف المعنوي يدفعهن للعودة إلى البيئة المريضة التي كانت السبب خلف الجرم الذي ارتكبنه، فيتكرّس الانحراف الحقيقي وتزيد نقمتهن وخطورتهن على كل من يعاقبهن ويظلمهن وحتى على أنفسهن”.
في لبنان أربعة سجون للنساء عددتها لموقع “الحرة”، نائبة رئيس جمعية لجان أهالي الموقوفين، رائدة الصلح، وهي “سجن بعبدا فيه 99 نزيلة بحسب إحصاءات القوى الأمنية للشهر الأخير من السنة الماضية، وسجن القبة ويضم 79 نزيلة، أما سجن بربر الخازن فتقبع فيه 48 نزيلة، وفي سجن نساء زحلة هناك 41 نزيلة، أي ما مجموعه 279 بين موقوفة ومحكومة، يضاف إليهن تسع قاصرات موقوفات في مركز الأحداث، اثنان منهن فقط محكومات”.
حفرة العقاب
لم تتعرف صاحبة الهاتف على نورا خلال التحقيق، لكن قبل إطلاق سراحها حضرت شريكتها وشقيقتها للاطمئنان عنها، وإذ بالمدعية تتعرف على من سرقتها، عندها أوقفت ونورا، وما أن انتشر الخبر حتى حضر “36 شخصاً وقعوا ضحيتي، ادعو عليّ، فسجنت حينها مدة شهرين”.
انفصل زوج نورا عنها عندما علم بما كانت ترتكبه، وتقول “كان لدي ثلاثة أولاد أصغرهم رضيعة، عانيت كثيراً نتيجة ابتعادي عنهم، ورأيت داخل السجن ما لا يصدقه عقل ولا يعلم به إلا الله وحده، مثل نساء من أبناء العائلات المثقفات يدلّكن أقدام أخريات للحصول على ظرف نسكافيه، أو ينظفن الغرفة مقابل علبة سجائر”.
من أولى عقوبات المجتمع “الظالم والجاهل والسطحي، التي قد تصدر بحق السجينة، انفصال زوجها عنها وحرمانها من أولادها” بحسب حمدان “ويزيد تهميشها والتمييز ضدها فتحرم ربما من الارتباط وتجبر على العمل بمهن متواضعة كل ذلك بسبب الإثم الذي تحمّله، هذا الرفض والدونية والظلم الذي تواجهه يضيّع كل أمل بالإصلاح والعدالة في لبنان”.
وبعدما خرجت من السجن، تدخل الأقارب وأصلحوا بين نورا وزوجها، لكن ما أن مرّت سنة حتى أوقفت من جديد بدعوى من مدعية قديمة لم يرق لها إطلاق سراحها، لتسجن للمرة الثانية في ذات الدعوى ولذات المدة، أما المرة الثالثة التي عاودت الدخول فيها إلى السجن فكانت “ظلماً” كما تشدد، وذلك “بعدما أعاد زوجي نحو كيلو ونصف الكيلو غرام من الذهب سرقتها قريبته من منزل جدتها التي هي في ذات الوقت عمته، وجاءت بها إلى منزلنا، عندما أطلعني أنه سيرجع المصاغ عارضته كوني توقعت أن تدعي علينا وهو ما حصل بالفعل بحجة فقدها البعض من حليّها”.
في المرة الثالثة التي أوقفت فيها نورا مع زوجها كانت قد رزقت بطفلتها الرابعة، حكما بسنة سجن، طعنا بالحكم وخرجا بعد شهرين، وتشير إلى أنه “بعد أن كان ينتقدني ويتنمر عليّ كوني خريجة سجون كما يصف، لاسيما وأن لا مبرر لدي لمخالفة القانون، فأوضاعي المادية جيدة، أصبحت أنا من يعايره، وما لا يعلمه أني كنت أشعر بالانتصار واللذة كلما نجحت بسرقة شخص”.
على عكس الهدف الذي يصبو إليه علم اجتماع الجريمة، فإن عقوبة السجن في لبنان غير إصلاحية، بحسب حمدان “أي أنها لا توفّر للسجينة الإرشاد للحد من سلوكاها المنحرف ولا تضمن لها تعلم مهنة أو إكمال تعليمها الأكاديمي إن كان ترغب في ذلك، وفوق هذا يتم دمج السجينات بغض النظر عن الجرم الذي ارتكبنه، مما يجعل السجن مكانا لتعلّم المزيد من السلوكيات المنحرفة، والنتيجة عقليات انتقامية”.
البعض يقبعن في السجون ظلماً، تقول الأستاذة الجامعية، و”البعض الآخر تقف خلف مخالفتهن القانون أمراض نفسية وفي هذه الحالة يفترض على القاضي تحويلهن إلى معالج نفسي، حيث ينص علم اجتماع الجريمة على ضرورة إخضاع المنحرفة إلى فحص نفسي وبيولوجي لمعرفة سبب انحرافها، بالتالي لا بد من تطوير شكل العقوبات في لبنان من تدميرية وانتقامية إلى إصلاحية وتأهيلية”.
فاتورة المجتمع
العقوبة القاسية التي نالتها ابنة الـ33 عاماً كما تشير “كانت من المجتمع، فحتى والدي تبرأ مني بداية، وإلى حد الآن أتجنب دخول منزل أي من معارفي أو جيراني، رغم أني نقلت مكان سكني من منطقة إلى أخرى” مضيفة “لازلت أسمع عبارات تجرحني، منها عندما قلت لوالدتي بأني أتمنى أن تصبح ابنتي محامية، لأصدم بجوابها بأن ذلك غير ممكن كوني سجينة سابقة”.
نورا تحمل الجنسية السورية، لكنها ولدت في لبنان من أم لبنانية، وزوجها كذلك لبناني، إلا أنها تخشى إنجاز ملف حصولها على الجنسية، إذ بحسب ما تشير “لدي فوبيا من رؤية أي عنصر ينتمي لجهاز أمنى لبناني”.
لولا الجمعية اللبنانية الخيرية للإصلاح والتأهيل لكانت نورا أمعنت في مخالفة القانون كرد فعل على رفض المجتمع لها، لكن “تعلمي الخياطة وتعرفي خلال الدورة التي نظمتها الجمعية على صدقات يواجهن ذات مشكلتي، ومن ثم عملي في المنزل ومتابعة رئيسة الجمعية فاطمة بدرا لي واهتمامها بي، كل ذلك ساعدني على التفكير ملياً قبل الإقدام على أي خطوة قد تطيح بمستقبلي أكثر”.
تنظم الجمعية دورات دعم نفسي اجتماعي ودورات تدريب مهني للسجينات، داخل السجن وخارجه، لمساعدتهن على الاعتماد على أنفسهن لعدم تكرار مخالفتهن للقانون، وتشرح بدرا “نأخذ دور صلة الوصل بين السجينات والمجتمع، نشعرهن أنه يقف إلى جانبهن ويساعدهن، أما الدورات التدريبية التي ننظمها فمنها ما هو خاص بالطبخ وتصفيف الشعر، كما ننظم ندوات شعرية، ونحن بصدد أعداد صبحية داخل سجن القبة الذي يضم ما بين 70 الى 80 سجينة، يتخللها مسابقة شعرية تنافسية توزع فيها جوائز مالية للنزيلات الفائزات” .
وتضيف في حديث لموقع “الحرة”، “ننظم كذلك دورات لتعليم الخياطة، وفي نهاية كل دورة نقدم ماكينات خاصة بهذه المهنة للنساء اللواتي خضعن لها بعد إطلاق سراحهن ومنهن نورا التي تعمل اليوم من منزلها وتبيع عبر الإنترنت، كما ننظم معارض لعرض منتوجاتهن لكي يستفدن مما صنعنه. ومن إنجازات الجمعية خلال رحلة تقديماتها للسجينات، توقيع سجينة لكتابين داخل قضبان السجن”.
تمكين النساء اقتصاديا بعد خروجهن من السجن أمر ضروري لمواجهة صعوبة عثورهن على وظيفة بسبب سجلهن العدلي، لا بل تقول بدرا “حتى لو لم يطلب منهن إبرازه فإنهن سيواجهن الصرف من العمل في أي لحظة يكتشف فيها المدير الأمر، إذ للأسف تستمر إدانة المجتمع لهن رغم دفعهن ثمن خطئهن، ولهذا السبب نجد أن غالبيتهن يعاودن الدخول إلى السجن أو يفضلن عدم الخروج من منازلهن، من هنا لا بد من تعزيز ثقتهن بأنفسهن كي يواجهن المجتمع”.
رفض المجتمع لا يقتصر على من يقبعن خلف القضبان أو يغادرنها، بل يطال كذلك كل مبادرة لمساعدتهن، تشرح بدرا “عدد كبير من المواطنين يرفضون تقديم أي دعم عندما يعلمون أن سجينات حاليات او سابقات سيستفدن منه، من دون أدنى معرفة بأن لا أحد يولد مجرماً بالفطرة، وأن أسباباً تدفعه إلى ذلك”.
طريق الإصلاح
زادت الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان من الضغط على السجينات، إذ بالكاد تتمكّن عائلاتهن من تأمين بدلات النقل لزيارتهن ولو لمرة واحدة في الشهر، من دون أن ننسى ما تعانيه السجينات نتيجة ابتعادهن عن أولادهن، كل ذلك يوّلد حقداً لديهن على المجتمع ونفوراً بين السجينات أنفسهن، وهو ما نلمسه عند تقديم الدعم النفسي لهن الذي يساعدهن على التقرب من بعضهن”.
ولا تقتصر أهداف الجمعية على مساعدة السجينات، بل كذلك تقدم مساعدات للسجناء الذكور، لاسيما فيما يتعلق بالأمور القانونية، و”بالتحديد لأولئك الذين لا تسمح لهم قدرتهم المادية توكيل محام، وغيرها الكثير من التقديمات لشباب وشابات لبنان كي يتمكنوا من الدخول ‘لى سوق العمل والابتعاد عن مخالفة القانون وآفة المخدرات”.
سجون لبنان أبعد ما تكون عن تأهيل السجناء، بحسب إخصائية علم النفس الدكتورة ريما بجاني “ففي أغلب الأحيان تتعلم السجينات، سواء المرتكبات جنحة او جناية سلوكيات أكثر انحرافاً وينمو لديهن رفض المجتمع، وهذه مسؤولية الحكومة والجمعيات الأهلية التي عليها العمل ليكون السجن مكاناً للإصلاح ومساحة لكي تعيد بها السجينات النظر بأخطائهن”.
وتضيف بجاني في حديث لموقع “الحرة”، “لدى المجتمع نظرة نمطية عن السجينة أيا تكن الجريمة التي ارتكبتها، من دون الاخذ بعين الاعتبار فيما إن كان يقف خلف ما أقدمت عليه مرض نفسي او ظروف قاهرة (من دون تبرير أي من الأفعال المخالفة للقانون)، فهناك من تسرق بسبب الحاجة، أو نتيجة إصابتها بمرض نفسي، إذ أيا تكن الخلفيات يتم رفض التعاطي معها ومساعدتها على التخلص من السلوك المنحرف، كخطوة نحو إعادة دمجها بالمجتمع وبناء حياة جديدة صحية خالية من الشوائب”.
كذلك تشدد الصلح، على أن الواقع ما بعد السجن قاس جداً، “فما سمعناه من كثر خرجن من السجون يحتاج إلى تأمل عميق وحلول اجتماعية ونفسية للمجتمع قبلهن، وبداية يجب القضاء على النظرة الاستباقية والأحكام الجائرة بأن الخارجة من السجن مجرمة وكائن غريب عن المجتمع، من هنا ينظر لهن نظرة ريبة ويخشى من التعامل معهن من دون الوقوف على الأسباب والدوافع التي أودت بهن إلى السجن وفيما إن كان الحكم عليهن منصفاً أو جائراً في بلد أصبحت فيه العدالة مجرد حلم”.
كما يجب وضع حد “لأزمة الخارجات من السجن الباحثات عن فرصة جديدة للانخراط بالحياة والبعد عن الخطأ، فما يواجهنه يولّد لديهن ردود فعل نفسية وضغوطا كبيرة قد تتسبب أحياناً بانحرافهن عن قصد، فمجتمع لا يريد تقبلهن وتسهيل سبل العيش الكريم لهن سيدفعهن مجددا للخطأ”.
ودعت الصلح الجمعيات المعنية بالحالات الاجتماعية والنفسية إلى “توعية المجتمع على أصول التعامل مع من كتب عليهن يوماً أن يقبعن خلف القضبان، وكسر الحواجز النفسية بين الطرفين لتقبل بعضهما الآخر، كخطوة أولى في طريق عودتهن إلى حياتهن الطبيعية”.