التعافي المؤجل
تاريخياً، عُرف الاقتصاد اللبناني بأنه “اقتصاد خدمات”، ما يجعله شديد الحساسية إزاء الأوضاع المتوترة سياسياً، والأوضاع الأمنية المضطربة بسبب تركيبته البنيوية. في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) التي اندلعت في قطاع غزة، تعرض النشاط الاقتصادي اللبناني لصدمة إضافية إلى جانب الصدمات الأخرى التي سبقتها. وتأتي تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت من أن “تل أبيب لن توقف إطلاق النار عند الحدود مع لبنان حتى لو توقف إطلاق النار في غزة”، ليثير المخاوف من استمرار التوترات الأمنية جنوباً على رغم مؤشرات التوصل المحتمل لهدنة موقتة في غزة.
يؤكد رجل الأعمال والنائب ميشال ضاهر، أن الحركة الاقتصادية تأثرت جراء التوترات في المنطقة التي تعمقت في أعقاب حرب غزة، وتحديداً المواجهات الناشئة في البحر الأحمر، متخوفاً من زيادة معدلات التضخم بفعل زيادة أكلاف الإنتاج، ومحاولة تحقيق المنتجين هامش ربح معقولاً. ويلفت إلى تأثير شديد على التجارة البينية بين الدول، وارتفاع أكلاف الشحن من الشرق الأقصى، فعلى سبيل المثال، كانت كلفة مستوعب المواد الأولية سعة20 قدماً، تبلغ 1400 دولار، وأصبحت حالياً بفعل تحويل المسار 5200 دولار. بالتوازي، ارتفعت كلفة تصدير المستوعب إلى الإمارات من 1100 دولار، إلى 4000 دولار. ويشدد ضاهر على حاجة لبنان “أكثر من غيره للتصدير إلى الخليج العربي، لأنه يشكل حوالى 13 في المئة من إجمالي الدخل القومي”.
القطاع الخاص والتعافي الموقت
يمتاز القطاع الخاص في لبنان بمرونة كبيرة وقدرة على الاستجابة للتحديات، لكنه يعيش حالة من القلق بفعل السياسة الضريبية. يقول ضاهر إن “الضرائب لا تأتي بطرق شعبوية، وإنما من خلال دراسة آثارها”، مميزاً بين التعافي المالي والتعافي الاقتصادي. فهو يرى أن القطاع الخاص تمكن من التكيّف جزئياً، فيما يستمر الوضع المالي على حاله السيئ نتيجة الأزمة، والحال نفسها بالنسبة لموظفي القطاع العام، إذ “فرضت الحكومة عليهم سلة ضريبية عند مستوى 90 ألف ليرة لبنانية، فيما لم تقم بتصحيح الأجور، وفي وقت تضاعف الدولار 60 ضعفاً، اكتفت الحكومة بمنحهم سبعة أضعاف الراتب الأصلي”.
ويوضح ضاهر، “عند بداية الأزمة، بلغ الاحتياطي لدى مصرف لبنان 32 مليار دولار، وكان هناك 50 مليار دولار من الودائع بمثابة ديون لدى القطاع الخاص، وكانت تمتلك المصارف 60 في المئة من ودائع المودعين أي 82 مليار دولار أميركي. وبالتالي، كانت هناك قدرة للعلاج في حينه، ولكن الخطوات العشوائية مثل سياسة الدعم، والفساد، أوصلت احتياطي المركزي إلى تسعة مليارات دولار، فيما سدد القطاع الخاص ديونه باللولار (تسمية تطلق على الودائع بالعملة الأجنبية العالقة في المصارف ولا يمكن سحبها نقداً إلا بسقوف ضئيلة جداً وبقيمة أدنى بكثير من قيمة الدولار الحقيقية في السوق)”.
ويعلق ضاهر على إقرار الضريبة الاستثنائية بنسبة 10 في المئة على من استفاد من عمليات الدعم ومنصة “صيرفة”، متسائلاً “أين كانت الدولة والقضاء عند ارتكاب المخالفات، وقافلات تهريب المازوت والبنزين إلى سوريا؟”. ويعتقد أنه “في غياب المحاسبة، تُساوي الإجراءات الحكومية بين التاجر والشركات النظامية من جهة، وتلك الضالعة بأعمال مشبوهة من جهة أخرى. ومن ثم، لا بد من ملاحقة ومحاسبة المهربين والفاسدين”، متخوفاً من اتساع نطاق الاقتصاد غير الشرعي والتهرب الضريبي بسبب الضرائب العشوائية.
الحركة تصاعدية في خطر
من جهته، يتحدث رئيس “جمعية تجار بيروت” نقولا شماس عن “منحى تصاعدي” شهدته الحركة الاقتصادية في لبنان خلال عام 2023، و”كان صيفاً استثنائياً قبل الأحداث التي أعقبت “طوفان الأقصى” (عملية “حماس” التي أطلقت حرب غزة)، فمع هذه الأحداث تحوّل الاقتصاد إلى مسار هبوطي، وشهدت بعض القطاعات انخفاضاً بمستوى 50 في المئة، ووصل الأمر ببعض القطاعات كالمجوهرات إلى انخفاض بمعدل 95 في المئة”. ويشير شماس إلى تأثير واسع النطاق للاعتداءات التي يتعرض لها جنوب لبنان، على رغم أنها لم تمنع نحو 300 ألف مغترب لبناني من زيارة البلاد خلال فترة الأعياد الماضية، ما ترك أثراً إيجابياً في الاقتصاد. ويتخوف شماس من تأثير حالة اللايقين على الأوضاع في لبنان، وامتناع الناس عن صرف المال إلا على الحاجات الأساسية، معولاً على موسم عيد الفطر المقبل.
ويأسف رئيس “جمعية تجار بيروت” لسيادة “النزعة التشاؤمية”، معتبراً أن “لبنان ينتقل من مصيبة إلى أخرى خلال السنوات الأربع الماضية، من الانهيار المالي والاقتصادي، إلى جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى الفراغ الرئاسي، وأحداث غزة”. كما يتطرق إلى جملة إشارات سلبية من “الموازنة الضريبية بامتياز” التي تصيب القطاع الخاص الشرعي عوضاً عن ملاحقة التهريب والتهرب الضريبي والمخالفات على الأملاك البحرية والنهرية. فضلاً عن قانون الإيجارات غير السكنية الذي تعارضه القطاعات التجارية معتبرةً أنه سيؤدي إلى “ظلم التجار” خلال المرحلة الانتقالية، فطالبت جمعية التجار بوضع هامش زمني يصل إلى 10 سنوات، وتخفيض نسبة الزيادة من 8 إلى 4 في المئة.
إشارات متناقضة
ويتجه لبنان نحو توحيد سعر صرف الليرة عند مستوى 89500 ليرة للدولار حالياً، إذ أصدر “مصرف لبنان” المركزي تعميماً يمكن كل من يملك حساباً بالدولار الحصول على 150 دولاراً نقداً (علماً أنه أمر متعذر حالياً بفعل سياسة الكابيتال كونترول التي تنتهجها المصارف). وتقارب الكلفة السنوية لهذا الإجراء 230 مليون دولار، سيتقاسم أعباءها “مصرف لبنان” مناصفة مع المصارف التجارية.
يشكل هذا الأمر استكمالاً لما حاولت الحكومة اللبنانية ترسيخه في الموازنة العامة، من خلال مضاعفة الضرائب والرسوم، بغية زيادة المداخيل وتكييفها مع الدولرة الشاملة للاقتصاد. في موازاة ذلك، أصدر مدير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي قراراً أعلن فيه تحديد سعر صرف الدولار الأميركي الذي على أساسه تحتسب اشتراكات المضمونين الذين يتقاضون أجورهم بشكل كلي أو جزئي بعملة أجنبية بحسب السعر الرسمي الأعلى المعتمد من قبل مصرف لبنان، وهو حالياً 89500 ليرة لبنانية للدولار.
في المقابل، دعت رابطة أساتذة التعليم الثانوي للاستعداد للتحرك، وتحصيل الحقوق، ومواجهة سلة الضرائب المفروضة، مطالبةً بسلسلة رتب ورواتب عادلة، تُحاكي الواقع المأساوي، وتجابه التضخم المالي والنقدي، خصوصاً أن جبايات الدولة أصبحت وفق سعر دولار في السوق، فيما رواتب الموظفين وفق حسابات غير منطقية، “فلا يُعقل أن يُزاد الراتب سبع مرات، في حين أن الضريبة قد زادت أكثر من 60 مرة”. من جهته، أكد تجمع موظفي الإدارة العامة على مطلب “تصحيح شامل للرواتب عبر إعداد سلسلة رتب ورواتب عادلة وموحدة ومنصفة لكل القطاع العام إضافة إلى تصحيح التعويضات العائلية وكافة التقديمات التعليمية والاجتماعية، وخصوصاً الصحية من طبابة ودواء واستشفاء”، معلناً الإضراب والتوقف عن العمل لمدة أسبوع.