إزالة التعدي
عند الساعة التاسعة من صباح الثلاثاء 6 يونيو (حزيران)، بدأت جرافة بهدم البناء المخالف على “شط أبو علي” في كفرعبيدا البترون، وذلك بعد مرور مهلة الشهر التي حددها القرار الصادر عن المدير العام لوزارة الأشغال بالإنابة أحمد تامر، والذي ألزم رجل الأعمال ز. باسيل المالك لأحد العقارات المطلة على الشاطىء الرملي بإزالة التعدي.
شكّل هذا القرار نجاحاً للجهود التي أطلقتها مجموعات من المجتمع المدني، والناشطين البيئيين في البترون. تعبر الناشطة ماغي نجم (حملة أنقذوا شط أبو علي) عن سعادتها لإزالة المخالفة، وتكريس حق للمواطنين بالولوج المجاني إلى البحر، مشيرةً أنه بعد النجاح في حماية شاطىء أبو علي، ستتوجه الأنظار حالياً إلى الخطوة التالية، حيث سيقوم الناشطون بإكمال الأعمال وتنظيف الموقع من الردم. كما تعبر الناشطة كلارا الخوري (حملة أنقذوا شاطىء كفرعبيدا) أن الحركة الاعتراضية كسبت مزيداً من الزخم بعد إنقاذ “شط أبو علي”، وهي تتطلع لتحرير باقي المواقع المُعتدى عليها على طول شاطىء البترون، وتحديداً تلك التي يحاول تكريسها النافذون قبيل موسم الصيف الحالي على مرأى من السلطات العامة.
يعبر أهالي البترون ومرتادو “شط أبو علي” عن حالة من الرضى المؤقتة، ولكنهم يطالبون بفعل المزيد لحماية الأملاك العامة البحرية في المنطقة من أسلوب “القضم” الذي ينتهجه المستثمرون لوضع اليد على المساحات المحاذية للشاطىء، وتخصيصها للمنفعة الذاتية. ويلفت الناشط طوني ناصيف إلى “يكمن جوهر الحراك في الحفاظ على الطابع الشعبي للشاطىء، وأن يكون متاح للجميع دون بدل مالي”، مضيفاً “هذا الشاطىء هو جزء من الذاكرة الجماعية لأهالي المنطقة، حيث تأتي إليه العائلات بصورة دائمة، كما كانوا يقومون بمهام تنظيفه وصيانته، كأنه جزء من دارهم. ولكن كان يُراد له أن يتحوّل إلى منتجع سياحي تجاري”.
شاطىء البترون
تحظى مدينة البترون بسمعة سياحية مميّزة، وقد اجتذبت الأنظار بفعل مرافقها المتنوعة، والمهرجانات التي تغذي النوستالجيا اللبنانية. وهذا ما يُفسر ربما “شهوة” المستثمرين لتوسيع نطاق منشآتهم على حساب الملك العام. ويكفي للزائر معاينة سريعة، ليلاحظ حجم الورش القائمة على طول شاطىء البحر من كفرعبيدا إلى تحوم. كما يكتشف تضاؤل المساحة المتاحة للعموم، حيث تنحصر بنقطة “شاطىء البحصة”، و”شاطىء أبو علي”، فيما تحجب المنتجعات السياحية البحر عن الرؤية، وكذلك إمكانية الدخول بالمجان.
لا يقتصر الأمر على شاطىء البترون، فسواء توجه الزائر شمالاً بإتجاه شكا، والهري، والقلمون، سيجد العشرات من المنتجعات السياحية المخالفة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالطريق المتجه نحو جبيل، وعمشيت، وجونية. ونهار الأحد 4 يونيو، نظم تحالف الجمعيات مسيرة من بلدة تحوم إلى كفرعبيدا وسط إجراءات أمنية مشددة، ليسأل أحد المشاركين عن سبب عدم توجيه القوى الأمنية لقمع المخالفات، وحصر مهامها بمراقبة التحركات الإحتجاجية.
يؤكد محمد أيوب (مدير جمعية نحن) تحوُل شاطىء تحوم – كفرعبيدا البترون إلى بؤرة للتعديات. ففي منطقة تحوم، يعتدي منتجع “أزور” على الأملاك العامة البحرية، حيث استغل رخصة الصيانة، من أجل إقامة منشآت ثابتة، وصب باطون، وإقامة مسبح على البحر، وهذه كلها مخالفات لا بد من وقفها. ويؤكد أيوب أن المستثمر ر. يزبك يشغل ورشات صب الاسمنت، ويسابق الوقت لعدم وقف أعماله، محملاً المسؤولية للبلدية، ووزارات الأشغال العامة، والداخلية، ومفرزة حماية الشاطىء.
لا تتوقف المخالفات عند حدود منتجع “أزور”، وإنما تأخذ أشكالاً مختلفة في عدد من المطاعم وغيرها من المواقع. ويشير أيوب أن “ما يجري على شاطىءالبترون هو جزء من مشهد عام للإعتداءات على طول الشاطىء اللبناني الذي يزخر بها، ويتطرق إلى بدء عمليات التعدي على شاطىء كفرعبيدا، وتحوم البترون، بالإضافة إلى القاسمية قرب الصور، وكذلك منطقة الناقورة في جنوب لبنان.
يحمل أيوب “قوانين التسوية” مسؤولية التشجيع على المخالفات، فعوضاً عن إزالة التعديات، جاء المشرع اللبناني ليبرر تلك التعديات بأشكال مختلفة، وتحديداً تلك السابقة على عام 1994. وبدأ البعض يتذرع باعتدائه على الشاطىء ليستفيد من التسوية.
وزارة الأشغال تبذل جهدها
تعترف وزارة الأشغال العامة بوجود ما يقارب 1068 مبنى مخالف على طول الشاطئ اللبناني، سواء أكانت منتجعات سياحية، ومطاعم، أو بيوت خاصة، مكررةً أن الوزارة لا تغطي أي مخالفة جديدة، وأنها تقوم بإرسال فرقها للكشف على الاعتداءات التي تبلّغ عنها، كما تخابر القوى الأمنية، والنيابة العامة لإتخاذ الإجراءات اللازمة لقمع المخالفات.
تشير الأوساط إلى أن المخالفات تعود بمجملها إلى ما قبل 2017، وأنها ستتحرك للكشف على الإنشاءات غير القانونية التي تقع عند شاطىء تحوم، مضيفةً أن مهمة قمع المخالفات تقع على عاتق القوى الأمنية التي يجب عليها عدم السماح بالبناء دون ترخيص. وتجزم أنه “لا يمكن منح رخص بإنشاءات ثابتة على شاطىء البحر الذي يعتبر ملك عام، كما أن المخالفة، ومن ثم التسوية لا يمكن أن تُكسب صاحبها أي حق دائم، ويمكن إلغاء الإشغال في أي وقت”.
كما تأسف إلى “جشع المستثمرين ومالكي العقارات المجاورة، واستخدام الخطاب والسياسي والطائفي لحماية بعضها في بعض الأحيان”، كما رحبت بجهود أهالي البترون للوقوف في وجه التعديات.
الملف المزمن
يتضح أن ملف الاعتداء على الأملاك العامة البحرية من الملفات المزمنة، ويشير جاد تابت (النقيب السابق للمهندسين) أن “الأملاك العامة البحرية محمية بموجب أول قرار صادر عن الانتداب الفرنسي، ولا يحق لأحد البناء عليها، أو يستغلها. ولكن سمح المشرع لاحقاً في السبعينيات بإستثمارها مؤقتاً بموجب مرسوم لخدمة الاقتصاد اللبناني والمجتمع، شرط دفع بدل مالي. كما يمكن الدولة المطالبة بإزالتها في أي لحظة، ولا يمكن إقامة منشآت ثابتة، كما يجب تأمين استمرارية الشاطىء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ولكن هذا غير محترم في لبنان بسبب حالة الفلتان”.
يعتقد تابت أن الهدف الحراك المدني الذي بدأ منذ خمسة عقود هو “السماح للناس التمتع بالبحر لأنه حق لكل إنسان، ولكن هذا شىء غير مؤمن في لبنان”، منتقداً التمادي في المخالفات بسبب غياب رادع، وتوافر الدعم والغطاء للمخالفين.
البحر ملك عام
حاول المشرّع حماية الأملاك العامة، واتخاذ شروط صارمة تحول دون المساس بها، معتمداً مدّ الموج معياراً لها. يقول الفقيه القانوني يوسف سعد الله الخوري “أجمع التشريع والاجتهاد على اعتبار شواطىء البحر من متممات وملاحق الملك العام البحري بمجرَّد غمرها بمياه البحر، حتى أبعد مسافة يصل إليها الموج في أقصى مراحل المدّ”. وعبّر التشريع اللبناني صراحة في المادة الثانية من القرار 144 أن الأملاك العمومية تشتمل بصورة خاصة على “شاطىء البحر حتى أبعد مسافة يصل إليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى”. كما يستند الخوري في مؤلفه مجموعة القانون الإداري إلى اجتهاد مجلس شورى فرنسا، ليشير إلى أنه “عندما تغزو أمواج البحر عقارات بجوار الشاطىء، وكانت قبل ذلك بمنأى عن حركة هذه الأمواج، فإن هذه العقارات تفقد عندئذ صفتها كملكيات خاصة، وتصبح تلقائياً جزءاً من الملك العام البحري. وفي هذه الحال يكون هناك توسّع للشاطىء وزيادة في مساحته على قدر هذا التقدّم”.
الإجازة المشروطة
من جهته، يجزم صادق علوية (عضو المجلس الاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي) بجواز إشغال الأملاك العامة ولكن بشروط، مؤكداً “كل ما يقال عن الحاجة إلى قانون أو أمر قضائي لإزالة الإعتداءات هو أمر خاطىء، وتهرب من المسؤولية، لأن الأصل بأن إشغال الأملاك البحرية يجوز بموجب مرسوم، وبغياب المرسوم نصبح أمام اعتداءيجب على البلدية، والقوى الأمنية، والقائمقامية، والمحافظة، ووزارة الأشغال العامة، القيام بواجبه والاستعانة بالقوى الأمنية لإزالته فوراً”.
كما يشدد علوية “إن قوانين التسويات لا تشمل الاعتداءات التي تحصل حاضراً، وهي شملت حصراً تلك الحاصلة قبل عام 1994، وبالتالي نحن أمام وضع يد على الأملاك العامة برضى، وتقصير السلطات المعنية”. ويتمسك بقرار مجلس شورى الدولة الذي قرر “وجوب إزالة الاعتداء على الأملاك البحرية، وإلزام البلدية بذلك دون الحاجة إلى قرار قضائي أو قرار من وزير الأشغال العامة”.
يعود علوية إلى نظام إشغال الأملاك البحرية الصادر في عام 1966، والذي اشترط صدور مرسوم، وهو لم يميّز بين مخالف وغير مخالف، لأن المخالف لا يحق له الترخيص. مما يعني أن “الاستحصال على المرسوم يجب أن يكون بصورة سابقة على الإشغال، وليس بعده”. وينوه علوية إلى موقف ديوان المحاسبة الذي يقول “يُهدم دون أي تعويض، وعلى نفقة ومسؤولية المخالف جميع الأبنية وأجزاء الأبنية المنشأة في الأملاك العمومية”، أي أن كل مبنى أو أجزاء منه، يُشاد في الأملاك العامة دون ترخيص رسمي واجب الإزالة”. كما أن القوانين الصادرة عن مجلس النواب، لا تُعطي الحق للحكومات بتأجيل تطبيق القانون المتصل بحماية الأملاك العامة منذ عام 1925، وكذلك المادة 11 من القانون الصادر في 2017، تميّز بين الأشغال الحاصلة قبل 1994، وبعدها، وبالتالي “يجب منع الاعتداءات وعدم التطنيش عليها”، ليس لوزارة الأشغال التذرع بعدم إمتلاك العديد الكافي، ولكن يمكنهم الطلب من صاحب العلاقة أو مقاول الإزالة على نفقة المُخالف، مشدداً عدم جواز استملاك الأملاك العمومية بالتقادم، ولا يمكن للمتعدي التذرع بمرور الزمن، و”كل مخالفة واقعة بعد 1994 واجبة الإزالة فوراً، ولكن تنقصنا الرغبة في إزالة المخالفات النافذة”، متسائلاً عن موقف السلطات العامة فيما لو حاول أحد الفقراء إقامة كوخ على الشاطئ.