شكّل اغتيالُ إسرائيل أمس قائد «وحدة عزيز» في «حزب الله» محمد نعمة ناصر «الحاج أبو نعمة» ما يشبه «الإنزالَ» خلْف خطوط المحاولات الديبلوماسية الأميركية – الفرنسية التي كان يتمّ في باريس تقويمها ورفْع مستوى التنسيق فيها من خلال محادثات آموس هوكشتاين موفد الرئيس جو بايدن مع جان – ايف لودريان مبعوث الرئيس ايمانويل ماكرون ومسؤولين آخَرين في الاليزيه عن الملف اللبناني.
وباغتيال إسرائيل ناصر في منطقة الحوش، وهو ثالث أرْفع قيادي في «حزب الله» يتم استهدافه منذ يناير الماضي، بعد وسام طويل المسؤول في قوة الرضوان، ثم سامي طالب عبدالله قائد «وحدة نصر» (قبل نحو 20 يوماً وكان مسؤولاً عن المنطقة الوسطى من الجنوب)، تكون تل أبيب وجّهتْ إشاراتٍ حمّالة أوجه حيال ما يُخشى أن يكون أحد ملامح «المرحلة التالية» من الحرب مع الحزب التي يُعمل على تحديد الإطار الذي سيَحْكُمها في ملاقاةِ المرحلة الثالثة من الحرب على غزة التي تتهيأ إسرائيل لإعلانها بخلفيةٍ غير خفية هي تعطيل صاعق انفجار جبهة الشمال وتفادي وضْعها أمام سيناريو غير مسبوق هو «التجرّع» من الكأس السامة نفسها التي تتوعّد بسكْبها فوق «بلاد الأرز»، وإن كان ميزانُ التدمير المتبادَل يميل بطبيعة الحال لمصلحتها.
وفي حين بَدأ «حزب الله» يعدّ العدة لردٍّ يُوازي اغتيال ناصر (وكان معه في السيارة نجله وعنصر من الحزب سقطا أيضاً) الذي كان مسؤولاً عن القطاع الغربي في جنوب لبنان، فإنّ أسئلةً تطايرتْ سريعاً حيال نقطتين:
– الأولى إذا كان الحزب، العاجز حتى الساعة عن إحداث توازن ردعٍ مع إسرائيل على قاعدة «القائد بالقائد»، سيلجأ إلى «جرعةٍ أعلى» من العمليات تتجاوز ما قام به غداة استهداف طالب لمحاولة وَقْف الاغتيالات المتسلسلة لقادةٍ فيه، علماً أن عَصْفَ الردّ حينها وما تلاه على مدار أيام من المواجهات الأعتى كان دَفَعَ واشنطن إلى تحريك «خلية الطوارئ» الديبلوماسية المعنية بالجبهة اللبنانية – الإسرائيلية بقيادة هوكشتاين وتفعيل مساعيها لخفْض التصعيد وإبقائه تحت السيطرة ريثما تكون غزة دخلتْ في كنف «الحرب المخفَّفة». وهو زار بيروت وتل أبيب قبل 16 يوماً تحت هذا العنوان.
– والثانية عن سبب مضيّ تل أبيب في ضرْب «بنك الأهداف» البشري ذات الصلة بحزب الله والذي راكمتْ «إحداثياته» على مرّ الأعوام وتالياً في إطلاق إشارة تصعيدٍ في الوقت الذي تتكثّف مساعي إيجاد أرضيةٍ لإعداد «مسرح نار» انتقاليّ على الجبهة اللبنانية يُلاقي التحوّل الذي تقف على أعتابه حرب غزة، وذلك بانتظار بلوغ نهائيات في ما خص اليوم التالي سياسياً وأمنياً في القطاع واستطراداً على جبهة الجنوب. علماً أن تل أبيب عمدت بعد اغتيال ناصر، الذي توازي رتبته العسكرية «عقيد» – كما مسؤول وحدة نصر – إلى تكثيف استخدام «سلاح» جدار الصوت الذي خرقتْه على دفعتين في أجواء بيروت والضاحية الجنوبية والشوف وإقليم الخروب وخلدة بعد تحليقٍ لطيرانها الحربي على علو مخفوض، في رسالةِ ترويع للبنانيين وبأن كل الفضاء اللبناني «في متناولها» رغم كشف حزب الله عن منظومة دفاعه الجوي والتهديدات المشفّرة التي حملها شريطان لمسيّرة «الهدهد» عن منطقة حيفا وما بعد حيفا.
وإذ تشير معطياتٌ إلى أن «حزب الله»، الذي مازال يواجه ثغراً في منظومة الحماية الأمنية لكوادره، سيتولّى «إيلام» إسرائيل في ردّه على اغتيالٍ يَعتبر أنه لم يَخرج عن قواعد الاشتباك السابقة، وسط إشارة أوساط قريبة منه إلى أن لكل قائدٍ «بديلاً جاهزاً» ومن «الجيل الشاب الأكثر ابتكاراً في الإستراتيجيات العسكرية» وأنه لا يَستبعد المزيد من عمليات الاستهداف «متى تسنّى للعدو ذلك»، فإنّ أوساطاً سياسية قرأتْ في اندفاعةِ إسرائيل بعد مرحلةٍ من انحسار المواجهات جنوباً، محاولةً لزيادة الضغط على الحزب للتعجيل في بلوغ تَفاهُم يتصل بالجبهة اللبنانية وربما إدراج الاغتيالات كأحد عناصر «المقايضة» على حدودِ هذا «التفاهم الانتقاليّ»، خصوصاً بعدما تعمّد الحزب إبقاء موقفه من كيفية تصرّفه ما أن تعلن تل أبيب رسمياً المرحلة الثالثة من حرب غزة في خانة «الغموض البنّاء» تاركاً لهذه المرحلة أن تبدأ وأن تعلن «حماس» أولاً الموقف منها لـ «يُبنى على الشيء مقتضاه».
حتى الليطاني!
وفيما كان «حزب الله» يرشق شمال إسرائيل والجولان المحتل بعشرات الصواريخ في ردٍّ أولي على اغتيال ناصر، عبّر وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت على طريقته عن «الضغط» الذي تسعى إليه بلاده حيث هدّد بعيد «عملية صور» باجتياحٍ بري للبنان قد يصل إلى نهر الليطاني، معتبراً أن «الدبابة التي خرجت من المعركة في رفح يمكنها الوصول حتى الليطاني. ونوجه ضربات شديدة لحزب الله يومياً، وسنصل إلى جهوزية كاملة وإلى موقع قوة في أي عملية عسكرية أو تسوية. ونحن نفضل تسوية، لكن إذا أملى الواقع علينا الحرب فإننا جاهزون للقتال».
قاسم و«الحرب الذكية»
وكان نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم بلْور بوضوح الموقف الغامض للحزب بإزاء الخطوة التالية له بعد المرحلة الجديدة من حرب غزة كما من «الخطة ب» الإسرائيلية التي تقوم على «حربٍ ذكية» تحدثت «الراي» عن سيناريوهاتها في اليومين الماضيين وتقوم على استهداف ترسانة الحزب ومَرافقه وتحيّد المدنيين والبنى التحتية للدولة اللبنانية والتي تَعتقد تل أبيب أنها لا تستدرج «الصدام المريع» بل تسرّع في الحلّ «الجاهز» وتفرضه على الساخن.
وقد أبلغ قاسم إلى «أسوشييتد برس» أنه ينبغي لإسرائيل أن «لا تتوقع قتالاً محدوداً إذا شنّت عملية ولو محدودة على لبنان لا ترقى إلى حرب شاملة، ويمكنها أن تقرر ما تريد: حرباً محدودة، حرباً شاملة، حرباً جزئية، لكن عليها أن تتوقع أنَّ ردَّنا ومقاومتنا لن تكون ضمن سقف وقواعد اشتباك تحددها هي، وإذا شنّت الحرب، فهذا يعني أنها لا تتحكّم بمداها أو بمَن يدخل فيها».
وأكد أنَّ «الطريق الوحيد المؤكد لوقف إطلاق النار على الحدود اللبنانية هو وقف إطلاق النار الكامل في غزة»، مشيراً إلى «أنَّ مشاركة حزب الله في إسناد غزة كان بمثابة جبهة دعم للشعب الفلسطيني الصامد ومقاومته الباسلة، وإذا توقفت الحرب فإن هذا الدعم العسكري لن يكون موجوداً».
وتابع: «إذا قلصت إسرائيل من عملياتها العسكرية من دون اتفاق رسمي لوقف إطلاق النار والانسحاب الكامل من غزة، فإن الآثار المترتبة على الصراع الحدودي بين لبنان إسرائيل ستكون أقل وضوحاً. وإذا كان ما يحدث في غزة مزيجاً بين وقف إطلاق النار وعدم وقف إطلاق النار، والحرب وعدم الحرب، فلا يمكننا الإجابة كيف سيكون ردّ فعلنا الآن، لأننا لا نعرف شكله ونتائجه وآثاره».
لا عودة للصهاينة!
وفي حين لاقت طهران «المناخ الردعي» من «حزب الله» بإعلان المشرف على وزارة الخارجية الإيرانية علي باقري «ان لبنان سيكون حتماً جحيماً بلا عودة للصهاينة. في لبنان، لعبتْ المقاومة، باعتبارها فاعلاً مؤثراً في المجال العملياتي والميداني والديبلوماسي، دوراً أوجد الردع اللازم»، فإن هذه الأجواء عزّزت الانشغال بمهمة هوكشتاين في باريس حيث خلصت لقاءاته الى تأكيد التنسيق في ما خص هدف خفض التصعيد في جنوب لبنان وكيفية العبور الى التهدئة المستدامة.
هوكشتاين
وإذ جاءت محادثات هوكشتاين، غداة اتصال هاتفي بين ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد فيه الأول «الضرورة المطلقة لمنع اشتعال» الوضع بين تل أبيب وحزب الله «وهو ما من شأنه أن يلحق ضرراً بمصالح كل من لبنان وإسرائيل، وأن يشكل تطوراً خطيراً بشكل خاص على الاستقرار الإقليمي»، كشفت تقارير في بيروت تفاصيل ما حمله الموفد الأميركي في زيارته الأخيرة لبيروت منطلقاً من أن إسرائيل «تواجه أزمة كبيرة بسبب نزوح 100 ألف مستوطن، ولا أحد يمكنه منعها من القيام بأي عمل عسكري ضد لبنان، رغم أننا نرفض ذلك».
وبحسب صحيفة «الأخبار» فإن هوكشتاين سأل الرئيس نبيه بري «ماذا لو قَبِل حزب الله بأن يعود، عندما تتوقف العمليات الكبيرة في غزة، إلى القتال الذي بدأه يوم 8 أكتوبر. أي أن يحصر المواجهة في مزارع شبعا المحتلة. وعندها يكون هناك وقف لإطلاق النار على طول الحدود، بما يسمح للنازحين اللبنانيين بالعودة إلى منازلهم وللمستوطنين بالعودة إلى قراهم في شمال إسرائيل، وبعدها نبحث في الترتيبات المناسبة لإدارة الوضع في الجنوب»، مؤكداً أن «الولايات المتحدة معنية بالمساعدة على تنشيط الاقتصاد المحلي في الجنوب وهي مستعدّة للدعم في حال تجاوب الحزب وأوقف إطلاق النار».
ميقاتي
وفي موازاة ذلك، أكد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي «أنّ الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان وما يشهده من قتل متعمد لأهله وتدمير للبلدات واحراق للمزروعات، ليس فقط محل ادانة واستنكار من قبلنا بل هو عدوان تدميري وإرهابي موصوف ينبغي على المجتمع الدولي أن يضع حداً لتماديه وإجرامه».
وقال ميقاتي خلال كلمةٍ له ضمن فعالية «لبنان الدور والموقع بين الانتهاكات الإسرائيلية والمواثيق الدولية» إن «ما يشهده جنوب لبنان حالياً من أحداث، وإن اعتُبِرَتْ في العمق صدىً للمآسي في قطاع غزة، ليست في حقيقتِها سوى نتيجةٍ لتفاقم اعتداءات إسرائيل على السيادة الوطنية وخرقها المستمر والمتمادي للقرار الدولي رقم 1701».
وأضاف: «لقد بادرتُ شخصياً منذ اندلاع أحداث غزة إلى إطلاق النداءات العلنية للحفاظ على الهدوء ولضبط النفس على الحدود الجنوبية، ووجَّهْتُ التحذيراتِ، من تمدد الحرب التدميرية في غزة إلى جنوب لبنان، ومنه إلى المنطقة».
وتابع «إن خيارنا في لبنان كان ولايزال هو السلام، وثقافتنا هي ثقافة سلام مبنيةٌ على الحق والعدالة وعلى القانون الدولي لا سيما القرار 1701، لكننا شعب ما رَضِي، ولن يرضى بالاعتداءات على سيادته وعلى كرامته الوطنية وسلامة أراضيه، وعلى المدنيين من أبنائه، وبخاصة الأطفال والنساء».