انعكاس هزيمة “حزب الله” على الداخل اللبناني ليس مجرد تأثير آني، بل قد يكون له أبعاد طويلة المدى تؤثر في مستقبله ومكانته بالداخل والخارج، خصوصاً مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وهو كان من أهم حلفاء الحزب في العقدين الماضيين.
فقد دخلت البلاد مرحلة جديدة من التعقيد السياسي يتشابك فيه المحلي بالإقليمي بعد وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل. وأدت التطورات الأخيرة في لبنان والمنطقة إلى إعادة تشكيل الأولويات السياسية للأطراف الفاعلة داخلياً، إذ انعكست آثار الحرب ليس فقط على التوازنات السياسية بل أيضاً على العلاقات بين القوى المختلفة وعلى النظرة الشعبية للقيادات.
هزيمة “حزب الله”
ستنعكس هزيمة “حزب الله”، إن صح اعتبارها هزيمة، على الداخل اللبناني بأبعاد ثلاثية، سياسية اجتماعية، واقتصادية، ذلك أن ما حصل بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، الذي عد حتى لخصوم الحزب أنه اتفاق “إذعان” وتنازل عن السيادة بالإشارة إلى بند حرية العمل العسكري في الداخل اللبناني، أثر في صورة الحزب كـ”قوة لا تقهر”، مما أثار تساؤلات داخل بيئته الحاضنة وخارجها، وبين الحلفاء والخصوم حول جدوى سياساته العسكرية.
أيضاً أثرت الهزيمة العسكرية على صورته كقوة ردع وقد تصاعدت الانتقادات من المعارضة، خصوصاً تلك التي تعارض امتلاك الحزب للسلاح، وطالبته بمراجعة دوره في الصراعات الإقليمية ووضع سلاحه تحت سيطرة الدولة.
وليس بعيداً من كل هذه التطورات، قد تتأثر علاقة “حزب الله” بحلفائه التقليديين خارج إطار الشيعية السياسية، مثل “التيار الوطني الحر”، الذي ربما إلى الهزيمة كعامل يضعف موقع الحزب في المعادلة السياسية. أضف إلى ذلك تراجع ثقة البيئة الحاضنة، إذ بدأت شريحة من جمهور الحزب في التساؤل عن جدوى الخسائر البشرية والمادية مقابل المكاسب التي يسعى إليها. أيضاً ارتفعت الأصوات الناقدة داخل الطائفة الشيعية، كبعض المثقفين والناشطين الذين يجاهرون بانتقاداتهم لسياسات الحزب، معتبرين أنها لا تخدم مصالح الطائفة. ولا يمكن فصل خسائر الحزب المالية والبشرية التي تؤثر سلباً في الاقتصاد المحلي، خصوصاً في مناطق نفوذه، عن تلك المعطيات، مما يزيد من الضغوط الاقتصادية على بيئته.
ومع تطورات سورية الجذرية، سيتراجع الدعم الإيراني، إذا وضعنا في الاعتبار أن طهران لن تستطيع في المرحلة المقبلة إعادة تسليح وتمويل الحزب، في ظل حصار اقتصادي وسياسي وعسكري تواجهه في الإقليم، فيما تدور تساؤلات داخل المحور الإيراني عن ترتيب أولوياته، فيما تضع الأطراف الدولية المقررة في الداخل اللبناني ضغطها على الحزب لتسليم سلاحه والانخراط في عملية سياسية داخلية أكثر توافقاً مع قرارات المجتمع الدولي.
“أمل”: لا نريد أن نكون ساحة
تبرز تساؤلات محورية حول مدى قدرة الدولة اللبنانية على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية في ظل تصاعد التجاذبات السياسية وتأثير الأزمات الإقليمية. وكيف ستعيد الأطراف السياسية اللبنانية تموضعها؟ وهل يمكن أن يؤدي وقف إطلاق النار إلى انفراج سياسي أم إلى مزيد من التعقيد؟
في هذا الإطار، برز كلام لمعاون رئيس مجلس النواب نبيه بري، النائب علي حسن خليل حول رفض إبقاء لبنان كساحة، ورفض منطق التخوين، وتعزيز منطق الدولة، وكان خليل قد قال في حديث إعلامي، “أقول لجمهورنا ولكل اللبنانيين إنه لم يتغير شيء بالنسبة لنا. ما ينفذ اليوم طالبنا بتنفيذه منذ 18 عاماً والجيش اللبناني والدولة اللبنانية معنية بتطبيق القرار ويونيفيل معنية بتطبيق جزء من القرار الدولي… كل رهاناتنا على أن يقوم الجيش بدوره وسنكون خلفه ونؤمن له المقومات لكي يقوم واجباته وتنفيذ الترتيبات لأن عماد تطبيق القرار هو الجيش اللبناني”.
وتابع، “أي أحد يعتقد أنه إذا كانت عضلاته أكبر، ومهما كبرت، إذا اعتقد أنه سيصرفها بالسياسة لن يستطيع وسنكون بوجهه ولا يجوز أن تصرف هذه القوة للإخلال بالتوازنات الداخلية. ونحن ضد تخوين أي لبناني مهما اختلفنا بالرأي معه”، وأضاف، “لا نريد أن نكون ساحة”.
سماع هذا الكلام من أحد قيادات الحركة، حليفة الحزب التاريخية وشريكته في الثنائية الشيعية، ليس عادياً. وقد قرأ متابعون كلامه بأنه بداية تمايز للحركة عن الحزب، وقراءة مغايرة للوضع العام في البلد، بعد الخسائر التي منيت بها مناطق الثنائي، وهو ما لم يكن في الحسبان، ويعرف أولئك مما حصل بين الحزبين في ثمانينيات القرن الماضي، والمعارك العنيفة التي وقعت بينهما والدماء التي سالت في اقتتالهما على خلفية مقاربتهما للوجود الفلسطيني في لبنان، ودعم توجه جيش النظام السوري في تلك المرحلة بعدما بدأ بعمليات عسكرية لتحجيم النفوذ الفلسطيني على الأراضي اللبنانية، وقد خاضت “أمل” تلك الحرب حينها إلى جانب القوات السورية.
البعض الآخر يشير إلى أنه ووفقاً للمعطيات الحالية فإن التحالف الوثيق مستمر بين الثنائي من دون بوادر لتمايز أو انفصال بينهما في المرحلة المقبلة. حيث أكدت الحرب الأخيرة مع إسرائيل، على تنسيق عال بين الطرفين، وأعلنت الحركة أكثر من مرة عن سقوط عناصر يتبعون لها منهم أحد قيادييها، علي داوود، خلال استهداف موقعهم العسكري في الجنوب، مما يشير إلى أن الحركة انتظمت في المواجهات إلى جانب “حزب الله”. أما في ما خص تصريحات خليل فهي تعكس توجه الحركة المستقبلي نحو تعزيز دور الدولة اللبنانية ومؤسساتها، خصوصاً الجيش.
يقول الكاتب والمحلل السياسي ناشر موقع “جنوبية”، علي الأمين في حديث إلى “اندبندنت عربية”، إن “الحزبين يخضعان للوصاية الإيرانية، والمشكلات التي حصلت بينهم، خلال فترة الثمانينيات، كانت ناشئة عن الخلاف بين الوصايتين السورية والإيرانية، ومن ثم ليس الأمين العام السابق للحزب حسن نصرالله الذي منع اقتتالهما بقدر ما أنه أصبحت هناك وصاية إيرانية على التنظيمين. وحضور ونفوذ الحركة قائم بجزء أساسي منه على هذه الثنائية التي تخضع لهذه الوصاية، والخطاب السياسي لهما متشابه في كثير من النقاط، إلى درجة أنه من الصعب خلق تمايز، ولكن سيزايدان على بعضهما في المرحلة اللاحقة للدخول إلى الدولة، والحديث عن الدولة”.
يتابع علي الأمين، “في العمق السياسي لنبيه بري كان يخضع للوصاية الإيرانية وكان يلعب دوراً أساسياً مطلوباً منه، ونفوذه ودوره استمرا نتيجة لهذه العلاقة الوثيقة مع إيران، ونتيجة لدوره الآخر باعتباره قناة اتصال غربية أو عربية مع إيران في الشأن اللبناني، من هنا من الصعب عليه الخروج من هذا الإطار”.
ويقول إنه “لا توجد قدرة لحركة لخلق عصبية لمواجهة الحزب وعلى أي أساس، علماً أنه في المسار الذي أوصل الأمور للكارثة التي نعيشها اليوم، يتحملها الطرفان، لا نستطيع إعفاء الحركة من المسؤولية، بالتضامن مع الحزب”.
من هنا لا يرى الأمين أن هناك فرصة لتباينات جدية، ومن المتوقع أن تحصل مشكلات بين الفريقين نتيجة الفوضى لكن في العمق الاثنان صعدا معاً نتيجة الوصاية السورية- الإيرانية منذ أكثر من 40 عاماً، وانعدام هذه الوصاية سيخلق إرباكاً لدى الطرفين، فيما الوضع السياسي في المرحلة المقبلة في لبنان سيتغير ولن يبقى على القاعدة التي كان عليها سابقاً، بل سينشأ مناخ جديد مختلف تماماً، من ثم سيكون هذا العنوان علاقة الثنائي من مخلفات الماضي، لأن الطرفين سيكونان عرضة لإرباكات ليست سهلة”.
وفي السياق يرى الأمين أن هناك عنصرين أساسيين اختفيا من المشهد، وهما عنوان “المقاومة” التي وقع الطرفان على عدم شرعيتها في لبنان، بسبب بند في القرار الأممي 1701 وهو لا سلاح شرعياً غير سلاح السلطة اللبنانية، والعنصر الثاني وهو غياب حسن نصرالله، الذي له تأثير كبير في الحزب والحركة. من ثم فهاتان الركيزتان تغيبان عن المشهد وهذا ما سيغير طبيعة المعادلة السياسية في كل لبنان، وليس فقط داخل البيئة الشيعية، من ثم السؤال المطروح اليوم كيف ستكون طبيعة الصراع السياسي الداخلي وما عناوينه في المرحلة المقبلة”.
ماذا بعد بري؟
على رغم تشكيك كثيرين بمستقبل الثنائية الشيعية، وسط انقسام بين من يعد أن هذه الثنائية مستمرة على رغم ما يحصل ومن يعد أن التمايز سيخرج بالتأكيد إلى العلن في مرحلة مقبلة، تبرز تساؤلات جدية عن مستقبل هذه الثنائية بعد نبيه بري، خصوصاً أن الرجل الذي يبلغ من العمر 86 سنة استأثر برئاسية البرلمان اللبناني من أكثر من ثلاثة عقود وتحديداً منذ عام 1992، وقاد حركة أمل منذ الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، ولا هوية واضحة لمن سيخلفه في المكانين، من ثم لا يعرف ما إذا كان خلفه سيسير على المنوال نفسه في قيادة الحركة، لا سيما في ما يتعلق بالحلف التاريخي مع “حزب الله”.
كذلك تتزايد بصورة كبيرة التحديات الداخلية داخل الطائفة الشيعية، فيما كان يؤخذ على بري، في المجالس الخاصة والكواليس، وبصورة سلبية التماهي التام مع الحزب وكأن دوره بات “ملحقاً سياسياً” بما يقرره الحزب في السياسة وعلى الأرض، فيما يعلق البعض على هذا التماهي بأنه “حجم” قوة بري لمصلحة نصرالله في السابق.
فيما في المقابل برز بري بعد مقتل نصرالله، في ضربة على الضاحية في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي، وكأنه مرجعية محورية للطائفة الشيعية، لا سيما بعد تكليفه من قبل الأمين العام للحزب نعيم قاسم لقيادة المفاوضات لوقف الحرب.
في سياق متصل يرى نشطاء معارضون من داخل الطائفة أنه سيبرز في المستقبل القريب دور أكبر لمن هم خارج فلك الثنائية الشيعية، انطلاقاً من النقمة التي سببتها الحرب الأخيرة، من ثم لن تعود هذه الثنائية هي المحتكر الأول لقرار الطائفة بأكملها، وسيضعف دورها وربما أكثر.
“حزب الله” لم يرد الحرب
بدوره لا يرى الكاتب السياسي والباحث في العلاقات الدولية محمد حمية تمايزاً بين موقف الحركة ورؤية الحزب لجهة الدور المستقبلي وقتال إسرائيل بعد اتفاق وقف إطلاق النار، ويقول إنه حتى “حزب الله” لم يكن يريد إدخال لبنان بحرب مع إسرائيل، بدليل أنه ومنذ حرب يوليو (تموز) 2006 حتى الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لم يبادر الحزب إلى تنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل باستثناء بعض الردود على اعتداءات إسرائيلية على قياداته ومراكزه على الحدود اللبنانية – السورية أو في الداخل السوري، بل استخدم طوال هذه المدة فائض قوته ومعادلات الردع فقط في إطار منع إسرائيل من شن حرب شاملة على لبنان”.
لكن ووفقاً لحمية جاءت عملية السابع من أكتوبر 2023 لتضع المنطقة برمتها أمام مشهد جديد، أما وبعد وقف إطلاق النار والتزام “حزب الله” به، فمن الطبيعي أن يتوقف إسناد غزة من الجبهة اللبنانية في الوقت الراهن، ولذلك فإن كلام النائب علي حسن خليل بأن (لبنان لن يكون ساحة)، يتلاقى مع كلام الأمين العام للحزب نعيم قاسم في خطابه الأول بعد وقف إطلاق النار، عن الدور السياسي والاجتماعي والشعبي للحزب مع استمراره بدعم غزة بوسائل متعددة.
“حرب استنزاف طويلة”
ويضيف الكتب السياسي محمد حمية، أنه قد نكون أمام مشهد إقليمي جديد عنوانه تهدئة الجبهات وإخماد الحروب العسكرية لا سيما الحرب بين إسرائيل وكل من لبنان وغزة، كما الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وربما تنتهي الأحداث الجارية في سوريا إلى تسوية روسية- تركية- إيرانية- أميركية وفق معادلات عسكرية وسياسية معينة، بعد دخول الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، أو ربما تتحول هذه الأحداث إلى حرب استنزاف طويلة لروسيا وإيران ومحور الممانعة على غرار ما حصل بين عامي 2001 حتى الـ2018.
اقتتال دموي في السابق
ولد “حزب الله” في لبنان من رحم حركة “أمل” عام 1982 وبمباركة من إيران، فيما دارت بينهما ما يعرف بحرب “الأخوة” ومصطلح يطلق على فترة الصراعات المسلحة العنيفة التي دارت بينهما خلال المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية، إذ بدأ الصراع بينهما في مارس (آذار) عام 1988 وتحول إلى مواجهات عسكرية عنيفة في الخامس من أبريل من العام نفسه، ليمتد على ثلاث مراحل متقطعة خلال الأعوام الثلاثة التي تلت، على خلفية دعم “أمل” لعمليات جيش النظام السوري العسكرية عام 1976 داخل المخيمات الفلسطينية، إضافة إلى بعض الفصائل الفلسطينية المدعومة من سوريا ضد قوات “فتح” الموالية لياسر عرفات في محاولة لتحجيم نفوذه في لبنان حينها، وتوقفت كلياً في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1990 إثر توقيع اتفاق سلام بين الجانبين رعته سوريا وإيران بصفتهما الدولتين الراعيتين والداعمتين لطرفي النزاع، إذ كانت هاتان الدولتان سبباً جوهرياً في نشوب الصراع بين التنظيمين بسبب نزاعاتهما حينها.