عهد الشهابية من فؤاد شهاب إلى شارل حلو: القوة والضعف
نجم الهاشم - اندبندنت عربية
Thursday, April 21, 2022
ينتظر لبنان انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، مع هذا الاستحقاق تفتح "اندبندنت عربية" ملف رؤساء الجمهورية في لبنان على مرحلتين قبل الطائف وبعده. هذه الحلقة من حلقات رؤساء ما قبل الطائف مع عهد الشهابية الذي يشمل عهدي الرئيسين فؤاد شهاب (1958-1964) وشارل حلو (1964-1970).
فقبل أن يصير كميل شمعون رئيساً للجمهورية، كان لبنان منقسماً بين تيارين سياسيين وكتلتين كبيرتين هما الكتلة الدستورية مع الرئيس بشارة الخوري والكتلة الوطنية التي كانت تدور حول الرئيس إميل إده. مع شمعون، خلال عهده وبعده، صار يحكى عن الشمعونية نسبة إلى الشعبية التي التفت حوله وبقيت معه بعد خروجه من القصر. ومع فؤاد شهاب، سيتم الحديث عن "الشهابية" نسبة إليه وهي سميت أيضاً باسم آخر هو "النهج" كاختصار لكلمتي "النهج الشهابي". هذه الصفة ستلازم الحكم في مرحلتي فؤاد شهاب وشارل حلو وستعود لاحقاً مع الياس سركيس (1976-1982)، وبعدما كانت المواجهة السياسية تدور سابقاً بين الكتلتين الدستورية والوطنية ستدور بعد فؤاد شهاب بين الكتلتين الشمعونية والشهابية.
الضابط الرمز
لم يخطر ببال شهاب أن يصبح رئيساً للجمهورية. الفتى الذي ولد في عام 1902 المتحدر من سلالة الأمراء الشهابيين الذين حكموا لبنان، الذي فقد والده صغيراً وتربى في كنف أخواله من آل حبيش في كسروان، اضطر إلى ترك المدرسة والعمل في عمر 14 عاماً ليعيل أسرته. لاحت له بارقة أمل عند دخول القوات الفرنسية إلى لبنان بعد الحرب العالمية الأولى فالتحق بالجيش الفرنسي وتخرج ضابطاً في كلية حمص الحربية عام 1923 ليبدأ منذ ذلك التاريخ مسار جديد في حياته. كان أحد أول الضباط اللبنانيين الذين يتخرجون من هناك حيث كان يتم تدريب الضباط اللبنانيين والسوريين معاً في ظل الانتداب الفرنسي على لبنان. شخصيته انطبعت بالعقيدة العسكرية: انضباط، واستقامة، ومؤسسات، وقانون، والتزام لا حدود له.
في أول أغسطس (آب) من عام 1945، تسلم راية الجيش اللبناني كقائد له بعد الاستقلال بعامين وقبل أشهر قليلة من جلاء آخر الجيوش الفرنسية عن لبنان، وسيصبح ذلك اليوم العيد الوطني السنوي للجيش اللبناني الذي يحتفل به في كل عام.
برز فؤاد شهاب كشخصية عسكرية أمسكت بقرار الجيش الجديد الفتي الذي كانت قدراته متواضعة، ولكنه كان القوة الأبرز والرمز للسيادة الوطنية. هذا الموقع أهله ليتولى سلطة القرار العسكري. رفض تدخل الجيش لمصلحة الرئيس بشارة الخوري ولدعم بقائه في السلطة عام 1952 وهذا الحياد جعله رئيساً للحكومة الانتقالية التي أمنت انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية.
صحيح أنه تولى وزارة الدفاع خلال حكم الرئيس شمعون في عام 1956 لمدة أربعة أشهر ولكن لم تجمعه الكيمياء مع الرئيس الثاني للجمهورية صاحب الشعبية الواسعة. حتى إنه رفض أن يتدخل الجيش لمصلحة شمعون في أحداث عام 1958 لقمع الثورة التي طالبت بإسقاطه، الأمر الذي جعل شمعون يتكل على قوى الأمن الداخلي وبعض الوحدات العسكرية، ولذلك كان اسمه الوحيد الذي برز بالاتفاق بين الرئيس المصري جمال عبدالناصر والولايات المتحدة الأميركية ليكون الرئيس الجديد للجمهورية. ذهب ممثل المخابرات الأميركية مايلز كوبلاند إلى القاهرة والتقى الرئيس عبدالناصر وتوصل معه إلى التفاهم الذي سرعان ما تم تطبيقه. انتشرت قوات "المارينز" في لبنان في 15 يوليو (تموز) 1958 وانتخب شهاب رئيساً للجمهورية في 31 يوليو ليبدأ معه مسار الخروج من الفوضى إلى السلام على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
في الثامن من فبراير (شباط) 1959، انعقد بين شهاب وعبدالناصر اللقاء الشهير في خيمة نصبت على الحدود بين لبنان وسوريا التابعة لدولة الوحدة مع مصر نصفها في لبنان ونصفها الآخر في سوريا، وهناك تم التفاهم على التنسيق في الحكم بين الحكمين. أُطلِقت يد شهاب في الداخل اللبناني وأعطى شهاب عبدالناصر دعماً في السياسة الخارجية. من هناك بدأ عهد الشهابية في صعوده وهبوطه، واستفاد من هذا الدعم أحياناً ودفع ثمنه أحياناً أخرى.
لم يكن لدى شهاب أي شعبية سياسية. بنى حكمه على الدعم الذي يأتيه من الجيش الموالي له واعتمد على عدد من القيادات السياسية التي أخذت تدور في فلك ما سمي الشهابية، وارتكز على شخصيتين أساسيتين، الشيخ بيار الجميل رئيس حزب الكتائب الذي كان من الداعمين لشمعون خلال الثورة ضده وعلى كمال جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان ضد شمعون. الحكومة الأولى التي شكلها بعد الثورة كانت قريبة من المعارضة ولكنها سرعان ما سقطت بعد ثورة مضادة، فشكل حكومة ثانية أرست التوازن وأزالت التشنج الطائفي من الشارع ليبدأ عهده بالتغيير المطلوب لإنشاء دولة المؤسسات.
الخطوة الأبرز التي أقدم عليه شهاب كانت تغيير قانون الانتخابات. بعدما كان القانون يتبدل عند كل استحقاق انتخابي ويتغير عدد النواب في كل دورة، جعل شهاب عدد النواب 99 وأعاد تقسيم الدوائر الانتخابية ووزع النواب عليها. هذا القانون سيبقى ثابتاً حتى عام 1992. بعدما حقق هذه الخطوة، أجرى أول انتخابات نيابية في عام 1960 وفاجأ الجميع من مؤيديه ومعارضيه بتقديم استقالته بعدها على أساس أنه نفذ ما جاء من أجله وأنه زاهد في السلطة، ولكنه عاد عن تلك الاستقالة بعد الصدمة التي أحدثها وكان ذلك المجلس النيابي ضم العدد الأول من النواب الذين يدورون في فلكه.
تحدي انهيار الوحدة المصرية- السورية
واجه فؤاد شهاب تحدياً كبيراً عندما انهارت دولة الوحدة بين مصر وسوريا بعد الانقلاب العسكري في سوريا بقيادة العقيد عبدالكريم النحلاوي في 28 سبتمبر (أيلول) 1961. لم يكن يدرك أن هذا التحول الكبير في الشرق الأوسط سيرتد على عهده أيضاً. في 31 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، كان الجيش اللبناني يتصدى لمحاولة الانقلاب التي حصلت ضد شهاب، التي قادها في العلن الحزب السوري القومي الاجتماعي متكلاً على عدد من الضباط. فشلت المحاولة ولكنها أطلقت يد الشعبة الثانية في الجيش لتطبق على الحياة السياسية في ظل عهد شهاب والتي ستصبح معيار قوة هذا العهد والعهد الذي سيأتي بعده، واستفاد منها شهاب ليحاول التخلص من خصومه السياسيين الذين كانوا يؤيدون الانقلاب وخصوصاً كميل شمعون.
حاول شهاب أن يستمر الربط بينه وبين عبدالناصر، وصارت القاهرة محطة دائمة لزيارات الضباط المكلفين التنسيق بين الطرفين، وصار السفير المصري لدى لبنان قادراً على التدخل في توجيه الحياة السياسية في الداخل. وأراد شهاب أن يتلافى الخلاف مع الحكم الجديد في سوريا، فكلف رئيس الأساقفة الموارنة على أبرشية دمشق المطران نصرالله صفير بمهمة نقل رسائله إلى العهد الجديد، فتوجه صفير في التاسع من فبراير من عام 1962 في عيد مار مارون إلى سوريا والتقى رئيس الدولة وقائد الجيش وعاد إلى لبنان ليقدم نتيجة وساطته إلى الرئيس شهاب في منزله في مدينة جونيه، وليحل مسألة تأمين لجوء رئيس الحكومة السوري خالد العظم إلى السفارة الأميركية في بيروت.
لم يقم شهاب في قصر القنطاري الذي كان مقر الرئيسين شمعون وبشارة الخوري. جعل من قصر صغير في صربا قرب جونيه مقره الرئاسي. كان يأتيه عند الفجر ويغادره أول الليل إلى بيته القريب. من هناك أدار عملية بناء مؤسسات الدولة وتنظيمها ووسع قدرات الجيش وأرسى دعائم سلطة الدولة. ولكنه تحت ضغط القريبين منه سقط أيضاً في عملية التخلص من خصومه. كما فعل بشارة الخوري في انتخابات عام 1947 ثم في انتخابات عام 1951، وكما فعل شمعون في انتخابات العام 1957 فعل شهاب في انتخابات عام 1964، عندما أسقط بقوة الشعبة الثانية خصومه وخصوصاً شمعون الذي استمر بعد خروجه من الرئاسة صاحب الشعبية الأكبر ومنافس فؤاد شهاب على زعامة لم يستطع أن يبنيها نظراً لشخصيته المنطوية وغير الشعبية ولطبيعته العسكرية.
شارل حلو رئيساً
كما كانت استقالة شهاب مفاجأة كان امتناعه عن الترشح مرة ثانية لرئاسة الجمهورية قراراً لا رجوع عنه. كان من الممكن تعديل الدستور لتأمين انتخابه ولكنه رفض التجديد، وأشار إلى الضباط والسياسيين المحيطين به الذين باتوا يشكلون عصب العهد والشهابية بترشيح شارل حلو.
ينتمي حلو، المولود في عام 1913، إلى مدرسة سياسية مختلفة عن مدرسة فؤاد شهاب شبه العسكرية. صحيح أنه قريب منه بميوله الفرنسية ولكنه كان آتياً من عالم مختلف. خريج جامعة "القديس يوسف" في بيروت في الحقوق، صحافياً وكاتباً ومحامياً لامعاً. كان سفيراً في الفاتيكان ثم نائباً عن بيروت في عام 1951 وتولى وزارتي العدل (1949)، ثم الخارجية (1951) على عهد بشارة الخوري قبل أن يصير وزيراً للتربية على عهد شهاب في عام 1964، وقبل اختياره ليكون خليفته في الرئاسة. في 18 أغسطس من ذلك العام، تم تنفيذ رغبة شهاب وانتخب شارل حلو رئيساً للجمهورية.
كان في اعتقاد شهاب والضباط ورجال العهد الأقوياء أنهم يستطيعون أن يحكموا من خلال شارل حلو معتبرين أنه سيكون رئيساً ضعيفاً يمكنهم أن يديروا السلطة من ورائه، وبالتالي يبقى شهاب الرئيس غير المنتخب مرجعيتهم في القرار والتوجيهات. ولذلك حاولوا أن يمسكوا العهد الجديد من خلال رئيس المخابرات غابي لحود والمدير العام للقصر الجمهوري إلياس سركيس. وكانت محطتهم الدائمة بيت الرئيس فؤاد شهاب.
لم يستسغ الرئيس الجديد هذه المعادلة وعمل سريعاً على التخلص منها. في انتخابات فرعية في قضاء جبيل عمل من تحت الطاولة على دعم ريمون إده المعارض لشهاب ففاز في الانتخابات بعدما كان تم إسقاطه قبل عام. وأبعد إلياس سركيس من القصر الجمهوري الذي اعتمده في منطقة سن الفيل إلى حاكمية مصرف لبنان من أجل أن يتفرغ لإدارة السلطة المالية بعد أزمة إفلاس بنك "إنترا" الشهيرة.
اتفاقية القاهرة والثمن الكبير
وخرج لبنان سليماً من حرب 1967 التي أضعفت عبدالناصر بعدما فقد سيناء، وأضعفت سوريا بعدما فقدت الجولان، وبعدما كان قام فيها حكم حزب البعث منذ انقلاب عام 1963. ولكنه منذ عام 1965 بدأ يعيش مرحلة تداعيات تسليح المخيمات الفلسطينية في لبنان بعد تأسيس حركة "فتح" وبدء العمليات العسكرية انطلاقاً من أراضيه. هذه العمليات زادت بعد هزيمة 1967 وانعكست سلباً على لبنان. في ظل هذه الأجواء، حصل ما يشبه الانقلاب السياسي على النهج الشهابي الذي كان لا يزال على تنسيق مع عبدالناصر من خلال تشكيل الحلف الثلاثي الذي جمع المتضررين من الشهابية وتمثل بكميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده. خاض هذا الحلف انتخابات عام 1968 بتعاطف من الرئيس شارل حلو وحقق نتائج جيدة ولكنه لم يحصد الأكثرية النيابية التي بقيت متأرجحة بينه وبين "النهج"، مع وجود عدد من النواب الوسطيين.
في عام 1969 ومع تزايد العمل الفلسطيني المسلح، كان على لبنان تحت الضغط المصري وبحكم تدخل النظام السوري الداعم للفلسطينيين والمسهل لإرسال السلاح لهم عبر الحدود أن يوافق على اتفاقية القاهرة في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، التي شرعت العمل الفلسطيني المسلح انطلاقاً من لبنان، واعتبرت تنازلاً عن السيادة اللبنانية وتأجيلاً للمواجهة التي كان يمكن أن تحصل بين المنظمات الفلسطينية المسلحة والجيش اللبناني. في ظل هذه الأجواء، تم انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بدعم من المعارضين للنهج الشهابي. رفض فؤاد شهاب أن يترشح كما تمنى عبدالناصر على موفديه المقربين، واعتبر أنه لم يعد يستطيع أن يفعل شيئاً وأنه لا قدرة له على الحكم، فرشح إلياس سركيس الذي خسر بفارق صوت واحد. بعد أربعة أعوام مات فؤاد شهاب بعدما أحرق أوراقه متشائماً من المصير الذي دخله لبنان ومستشرفاً انفجار الأزمة والحرب.