حُكْمِ الجنرالات بـ «ربطات عنق» ... الرئاسة والعسكر في لبنان.. مَن يستهوي مَن؟
الراي الكويتية
Thursday, April 21, 2022
لم يَعُدْ مُستغرَباً في لبنان أن يتحول قائدُ الجيش مرشحاً «طبيعياً» لرئاسة الجمهورية. ففي بلادٍ تحوطها منطقةٌ كان يتناوب على حُكْمِ دولها قادةٌ عسكريون، اعتُبر إنتخابُ رؤساء جمهورية مدنيين تَرَفاً لبنانياً وخصوصيةً نابعة من تركيبة لبنان ونظامه الديموقراطي.
لم يَعرف لبنان انقلاباتٍ عسكريةً (عدا عن انقلابٍ صُوَري نفّذه العميد عزيز الأحدب في مارس عام 1976) علماً ان انقلابَ الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1961 هو انقلابٌ سياسي بمعية ضباط من الجيش وليس إنقلاباً عسكرياً بالمطلق.
ورغم الظاهرة السلبية التي شكّلها تَحَكُّمُ «المكتب الثاني» العسكري، أي إستخبارات الجيش، بالوضع السياسي إبان حقبة الشهابية (نسبةً إلى رئيس الجمهورية قائد الجيش السابق اللواء فؤاد شهاب)، لكن منذ إختيار شهاب لرئاسة الجمهورية تحوّل تَقَدُّم قادة الجيش صفوفَ المرشحين للكرسي الأولى عُرْفاً حاول لبنان تخطيه تكراراً إلى أن عاد فتكرّس في ظل الوصاية السورية وما بعدها.
في الوقت الحالي وقبل الفراغ الرئاسي، بدأ يتردّد إسمُ قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية. ولم يَبْدُ إدراجَ عون في بورصة الترشيحات في ظل الشغور وحتى من دونه، أمراً خارج «المألوف»، ما يجعل السؤال الحتمي المطروح: لماذا أصبح قادة الجيش هم العنوان الأبرز في وُجهة إختيار المرشحين؟ هل هو الموقع العسكري الأول المفتوح على علاقات دولية وعربية، أم هو أداء المؤسسة ككل الذي يجعل قائد الجيش منزَّهاً عن أخطاء السياسيين؟ أم هناك مَن يرى في قائد الجيش إستقلالية أو ثقافة عسكرية تجعل منه حَكَماً لا طرفاً؟
في المبدأ، قائد الجيش هو ضابط عسكري يتدرّج من المدرسة الحربية، حاملاً شهادة البكلوريا - القسم الثاني، إلى مواقع قيادية تباعاً. إنتماؤه الطائفي الماروني يجعل من العمداء أصحاب النفوذ والمواقع مرشَّحين طبيعيين لقيادة الجيش. ومن القيادة العسكرية إلى القصر الجمهوري، أصبح كل قائدٍ للجيش حُكْماً مرشّحاً لرئاسة الجمهورية.
قبل الحرب كان ممنوعاً على العسكريين والضباط التعاطي في الشأن السياسي، فالولاء كان أولاً وآخراً للجيش، وليس للقوى السياسية. خلال الحرب والإنقسامات التي عَرَفها الجيش اللبناني على مراحل، في عام 1976 و 1984 ومع تَسَلُّم العماد ميشال عون الحكومة الإنتقالية (1988)، تبدّلتْ المعطيات. ورغم توحيد الجيش بدءاً من عام 1990 غداة دخول الجيش السوري وتعيين العماد إميل لحود قائداً للجيش، تَسَلَّلَتْ السياسةُ إلى المؤسسة العسكرية، وصار الضباطُ محسوبين على أحزاب وقوى سياسية، وعَرَفَ الضباطُ ولاءاتٍ سياسيةً وإن لم تُترجَم علانية.
أربع تجارب مرّ بها لبنان حَكَمَ فيها قادة الجيش: تجربة شهاب كانت الأفضل إدارياً وعلى صعيد تثبيت أسس الدولة رغم ما شابَها من تحديات «المكتب الثاني» وممارساته وقمْعه الحريات وتدخُّله في الإنتخابات النيابية. وقد إختير شهاب لقدرته على الإمساك بالوضع بعد ثورة 1958، وعلاقاته العربية ورؤية مصر في المنطقة لدور المؤسسة العسكرية.
مع إنتهاء عهد الرئيس أمين الجميل في 1988، لم يتم إختيار عون بصفته الرجل الأمثل لتولي حكومة إنتقالية ولا بسبب قيادته للجيش في معارك مع أطراف سياسية وعسكرية، بل بسبب إدارة الجميّل لمعركة نهاية العهد، بما لم يُبْقِ سوى عون في اللحظات الأخيرة.
تجربة عون أثارتْ نقزةَ القوى السياسية قاطبةً ولا سيما نتيجةَ ما تَسَبَّبَ به من حروب متتالية. وقد إنتُخب الرئيسان رينيه معوض ثم الياس الهراوي في ظلال فقدان عون الشرعية عقب إقرار اتفاق الطائف ورفْضه ترْك قصر بعبدا الذي لم يخرج منه إلا بعملية عسكرية شارك فيها الجيش السوري في 13 اكتوبر 1990.
وكان الهراوي آخِر «رئيس مدني» للبنان، إذ في جمهورية الطائف بنسختها «السورية» التي انطلقت مع اغتيال معوّض وتكرّست تباعاً، إختارت دمشق للرئاسة العام 1998 العماد إميل لحود الذي كانت سمّتْه لقيادة الجيش وتوحيده وتثبيت عقيدته القتالية ضد إسرائيل، ولاحقاً جرى ترسيخ هذه المقولة مع ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» بعد عام 2006.
إختيار لحود وما تبعه من أحداث دمّرتْ لبنان ولا سيما منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 وما أعقبه من انسحاب الجيش السوري من لبنان في ابريل من العام نفسه لم يوقف سبحة ترئيس «القائد». ورغم كثرة المرشَّحين المدنيين من فريقي «8 و 14 مارس» والتوافقيين، فقد أسفر إتفاق الدوحة الذي عُقد في مايو 2008 برعايةٍ عربية – غربية في أعقاب أحداث 7 مايو في بيروت والجبل ونحو 6 أشهر من الفراغ الرئاسي، عن إختيار قائد الجيش العماد ميشال سليمان للرئاسة، هو الذي كان أتى إلى قيادة الجيش بتزكيةٍ من لحود وسورية.
إختار سليمان العماد جان قهوجي لقيادة الجيش. وبعدما قاربت ولاية سليمان على نهايتها صار قهوجي مرشَّحاً أول، وخصوصاً أنه عُرف بعلاقته الجيدة مع الأميركيين، وأدار الفراغ الرئاسي (بدأ في 2014) لمدة عامين ونصف عام وظلّ في الصف الأول للمرشحين، لكن الظروف عاكَسَتْه فكان خطْف العسكريين في الجرود البقاعية، وعداء عون له ووقوفه ضده عوامل حالت دون دخوله قصر بعبدا.
إنتُخب عون، قائد الجيش السابق، رئيساً في 31 اكتوبر 2016 فاختار العماد جوزف عون لقيادة الجيش على أساس العلاقة الوثيقة بينهما. لكن الأعوام الستة من العهد حملتْ خلافات كثيرة بينهما، حتى سرتْ معلوماتٌ عن محاولة «التيار الوطني الحر» إستبدال عون – القائد قبل نهاية ولاية عون - الرئيس، كي لا يصبح مُنافِساً جدياً لرئيس «التيار» جبران باسيل.
ومع بدء الفراغ تحوّل الجيشُ مرةً جديدةً قُبْلة أنظار المرشحين والقوى السياسية وعواصم القرار. فعلاقةُ المؤسسة العسكرية بالعواصم الغربية فاعلةٌ، سواء عبر الزيارات التقليدية لقادة الجيش إليها أو عبر المساعدات العسكرية التي تُقَدِّمُها الدول الغربية إليه كون عتاده وتدريباته كلها غربية.
وهذه العلاقة تطورت منذ أعوام، حيث التفاعل يتمّ على مستوى عالٍ بين الجيش ومراكز القرار السياسي والعسكري في الدول الغربية، وثمة وفودٌ أميركية وفرنسية وبريطانية وألمانية تزور قيادة الجيش في شكل مستمرّ. وفي موازاة ذلك، فإن الجيش يشكّل أيضاً وبِحُكْم الأمر الواقع عاملَ إستقرارٍ بالنسبة إلى العواصم العربية نتيجة التنسيق المستمرّ بين أجهزة المخابرات اللبنانية والعربية، ناهيك عن أنه بفعل الوضع الأمني في لبنان يصبح قائد الجيش محطّ متابعة غربية لجهة قدرته على حفظ الإستقرار ومعالجة العثرات الأمنية والتوترات، كما حصل إبان إحتجاجات 17 أكتوبر 2019 أو حوادث عين الرمانة - الشياح، أو علاقته بـ «حزب الله».
ونتيجة موقعه هذا، يتحوّل قائد الجيش إلى مركز إستقطاب سياسي داخلي وخارجي. ففي الداخل يصير «متوَّجاً» على مؤسسته، كما أن دوره يتجاوز بكثير الإطار الذي يحدده له التصنيف الوظيفي كموظف من الفئة الأولى إدارياً وقائداً عسكرياً، إذ انه يصبح مقصداً للسياسيين ونَداً لهم، رغم إختلاف خبراته عنهم، وهم المنتخَبون في غالبيتهم شعبياً، أو قادة أحزاب، فيتقدّم عليهم عندما يحين موعد إنتخاب رئيسٍ للجمهورية، ليتحوّل حُكْماً مرشحاً أول، لا يمكن تخطّيه في قائمة الترشيحات، قبل ان تأتي التسوية لتختار الرئيس العتيد للجمهورية.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها