من أرشيف جريدة القبس : 1986 | الدولار يحرق أخضر لبنان والمواطن يقاتل من أجل الخبز
جريدة القبس الكويتية
Thursday, April 21, 2022
تفاقمت معاناة اللبنانيين مع الانهيار المتسارع في سعر صرف الليرة أمام الدولار، ويواجه لبنان في ظلها أزمة اقتصادية طالت السلع الغذائية الأساسية، حيث رصدت القبس في عددها الصادر بتاريخ 2 أبريل 1986، المأساة على وجه اللبنانيين الذين بدأوا يلمسون الخطر في كل الأشياء من حولهم، حيث أصبحت المواد الغذائية الأساسية عرضة لتلاعب التجار والمحتكرين «الوطنيين» منهم و«الانعزاليين»، كما تساوى الجميع في الجشع والنهب والسرقة، كذلك فإن العديد من الباعة يطرحون أسعار بضائعهم بالدولار وان كان هذا السلوك يحمل بعضاً من الهزل.
وفي كلمات تختصر الهم كله، تقول السيدة ناديا: «هل تعلم إننا اضطررنا إلى التخلي عن بعض الغذاء، مثلاً، لم نعد نشتري اللحوم إلا مرة واحدة في الأسبوع». كما شهدت لبنان تظاهرات المناوئة لسياسة الدولة الاقتصادية أحرق المتظاهرون الدولار الأميركي فيما كانت مجموعات أخرى تلوح بالليرات اللبنانية وسط الصراخ والنحيب تعبيراً عن تشييع العملة اللبنانية إلى مثواها الأخير!.
وفيما يلي نص التقرير:
نار الدولار اجتاحت كل الحواجز والحدود وبدأت تشعل آخر ما تبقى من اخضرار في لبنان.
في السياسة كما في الاقتصاد تتطاير الطاولات من أمام اللبنانيين ويتناثر معها كل أمل بالوصول إلى حل ما.. إلى مخرج ما.
والآتي أعظم، كما يقول أصحاب الرأي، فيما تطلق نقابات العمل ومسؤولون صيحات التحذير والخوف من وصول الوضع الراهن إلى النقطة التي يجوز فيها القول: «فالج لا تعالج»!
فما الذي يبقى حين يلامس الدولار الأميركي سقف الـ 30 ليرة؟ وما الذي يبقى بعد ان تفقد الليرة اللبنانية قدرتها الشرائية في انهيار لم يشهد لبنان له مثلاً في تاريخه الحديث؟ وما الذي يبقى حين يصبح الحصول على كيلوغرام من السكر ضرباً من المستحيل.. وحين تصبح المواد الغذائية الأساسية عرضة لتلاعب التجار والمحتكرين «الوطنيين» منهم و«الانعزاليين»، حيث يتساوى الجميع في الجشع والنهب والسرقة؟!
الظلال داكنة فوق لبنان في لعبة تجاذب دراماتيكية بين السياسة والاقتصاد، فإما التسليم بالعروش، وإما فلتطاير كل الرؤوس، وبين المد والجزر غرق اللبنانيون وهم الآن يحاولون النفس الأخير، وكما يقول الفنان زياد الرحباني في وصفه لوضع اللبناني: «يمكن رح ينقطع النفس الباقي بهاليومين...».
تستطيع ان تلمح المأساة على وجه اللبنانيين الذين بدأوا يلمسون الخطر في كل الأشياء من حولهم، وكأنهم انزلقوا إلى الفخ الكبير وهم يفقدون آخر أمل بالمعجزة التي راودت أذهانهم بعد توقيع الاتفاق الثلاثي.
الدولار كلمة مرة من فم المواطنين.. والليرة «موضع احتقار» تكاد لا تفي بغرض وجودها إلا النذر القليل. فمثلاً على بسطات الأحذية الإيطالية المنشأ لجأ التجار إلى كتابة أسعار الأحذية بالعملة الأميركية الأمر الذي يدل على انحسار الثقة بالليرة لمصلحة الدولار.
كذلك فإن العديد من الباعة يطرحون أسعار بضائعهم بالدولار وان كان هذا السلوك يحمل بعضاً من الهزل.
البائع عفيف الشنب يقول: «ان التعامل بالليرة لا يسمن ولا يغني من جوع، فنحن، يقول، نحتسب مبيعاتنا ومشترياتنا بالدولار، فمثلاً كيلوغرام الخيار يباع بنحو ثلاثة أرباع الدولار».
وفي سوق للخضار التقينا ربة منزل تدعى إلهام خلوصي كانت قد انتهت من شراء أصناف من الخضروات. قالت لنا: «تصور ان مئة ليرة لم تكف لإعداد وجبة طعام. وانت تعرف اننا نموت مئة مرة لنحصل على هذا المبلغ من المال».
وتضيف وهي تقلب مشترياتها بين يديها: «لستُ أعرف سبباً لهذا الغلاء الفاحش. أنا أشعر ان الأمر مقصود. يريدون تجويع الناس. والحقيقة انهم يشتركون كلياً في هذه المؤامرة. هنا وهناك (تقصد في الشرقية والغربية)، فما معنى ان يسكت زعماؤنا عن التجارة المجرمة مع انهم يقولون ان هدفهم انقاذنا والمحافظة على مصلحتنا»!
الكلام يحرق أصحابه. تعب اللسان، يقول المواطن منذر أبو عرم، وهو من شدة غضبه يقول: «نحن ندين أهل بيتنا قبل غيرهم، هم مسؤولون عما يجري فكيف يسمحون بالاحتكار في الغربية، لقد فقد السكر! الأرز! الحليب! هل هذا يجوز؟ لم نعد نجد في الأسواق شيئاً، وإذا وجدناه لا نجد في جيوبنا مالاً يكفي لسد حاجياتنا».
وفي رأي أب عائلة مؤلفة من 9 أشخاص، فإن المجاعة باتت في حكم الواقع. يقول: «أنا أتصور موقف العائلات من هذه المسألة. ماذا سيفعل الناس إذا وقعت الواقعة؟ حتى الآن لا أرى أحداً يتحرك. فقط نسمع تصريحات وبيانات واستنكارات من دون أي تنفيذ على الأرض. يقولون ان الاحتكار مسؤول عن الوضع. لماذا لا يضعون حداً للاحتكاريين؟ لماذا؟ كيف لي ان أطعم 9 أولاد براتب لا يزيد على 100 دولار (نحو ثلاثة آلاف ليرة لبنانية). نعم 100 دولار، لأن حساب الأشياء بالليرة لم يعد يجدي».
ويصرخ المواطن المقهور: «الدولار.. الدولار.. إلى هذا الحد بلغ بنا العجز والشلل. الذي يرفع سعر الدولار معروف. أصحاب الرأسمال والمصارف والعديد من المسؤولين في الدولة والأحزاب. ويل لهم يجب ان يتحرك الشعب لأخذ حقوقه».
وتحدثنا موظفة في أحد المصارف عن ذلك الطبيب المشهور الذي أقفل باب عيادته واتخذ ركنا له في قاعة أحد المصارف لمتابعة تطور أسعار صرف العملات الأجنبية.
قالت لنا 18 مليون ليرة كانت أرباح هذا الطبيب من وراء المضاربة بالدولار. وغيره الكثيرون لا هم لهم سوى المضاربة بالدولار.
تباعاً يفقد المواطن اللبناني مقومات الحياة، أو قل انه فقد امكانية الحصول عليها. أسواق بيروت مثلاً تلاشت فيها المواد الغذائية.
السكر.. الأرز.. الحبوب.. البن.. الحليب.. الزيوت.. الصمون كل هذه صارت مواد نادرة في المحال التجارية. أما المستودعات والمخازن، فإنها تطفح بآلاف الأطنان من المواد الغذائية في انتظار توزيعها على الأسواق وفقاً لسعر الدولار الجديد.
صاحب محل للتجارة قال لنا: منذ أسبوع توقف تجار الجملة عن تسليمنا البضائع بحجة انها مفقودة، وبحجة انهم لا يستطيعون الاستيراد بالدولار.
الأسعار تتصاعد بشكل جنوني. يقول موظف رسمي يدعى نبيل: «الوضع سيئ جداً، وتستطيع ان تقول ان الهستيريا تحكم تصرف الناس. أنا مثلاً أبحث عن كيلو سكر منذ ثلاث ساعات بمحال بيع السكر مع انني أعلم ان هذه المادة متوافرة وموجودة، ولكنها اختفت بانتظار رفع الأسعار».
يقول إسماعيل حيدر: «الجوع كافر، ويجب ان يحذر المسؤولون من جوع الشعب، لن أبكي أو أولول، فذلك لا يجدي نفعاً. يجب ان نتحرك بشكل أكثر قوة، لأن الاضرابات السلمية والاحتجاجات لم تؤد إلى نتيجة، فإذا لم تقاتل لم تحصل على الخبز. هذا هو رأيي ويجب ان نتصرف على هذا الأساس».
وفي كلمات تختصر الهم كله، تقول السيدة ناديا: هل تعلم اننا اضطررنا إلى التخلي عن بعض الغذاء، مثلاً، لم نعد نشتري اللحوم إلا مرة واحدة في الأسبوع، كيلوغرام اللحم يكلف 100 ليرة. اشتريت أمس نصف كيلوغرام لاستعماله في حالات الضرورة. أما الفواكه، فباتت نادرة في منزلي. اننا نعتمد الآن أكثر على الحبوب والمعجنات والخبز بشكل أساسي. لدي 4 أطفال وحالتنا تزداد سوءاً. أما جارتي أم سامر، فهي تكاد تجوع، فلديها 7 أطفال أكبرهم يبلغ الخامسة عشرة. حالتها صعبة وهي لا تستطيع شراء الحليب لرضيعها».
وينسحب الأمر على آلاف العائلات الفقيرة والمتوسطة وذات الدخل المحدود. ويتخطى المأزق الاقتصادي هذه الفئات ليطول حتى الفئات الميسورة، فقد التقينا بمواطن يدعى أحمد علي إبراهيم يتقاضى راتباً شهرياً قدره 7 آلاف ليرة لبنانية، ولكنه لم يتمكن من التكيف مع المستجدات الاقتصادية.
يقول أحمد: «دخلي الشهري موزع على الشكل التالي: ألف وخمسمئة ليرة بدل إيجار منزل. نحو ألف ليرة بدل مدرسة لطفلي. أما الأربعة آلاف المتبقية، فإنها تكاد لا تكفي للغذاء. هل تعلم انني لم أشتر أي نوع من الملابس طيلة هذه السنة؟ لقد ذهبت إلى مخزن لبيع الألبسة المستعملة للحصول على بعض الملابس الشتوية لاتقاء البرد».
ويتابع: «حتى ما قبل الاتفاق الثلاثي كنا نعمل على تحديد المصروف بشكل دقيق. أما اليوم فقد طار برنامج المصاريف. لم نعد نعرف كيف نوزع دخلنا الشهري. فقد أصبنا بالارتباك والحيرة»!
يترحم اللبنانيون على أيام زمان، وقت كان لليرة اللبنانية عزها ومكانتها بين العملات. يفاخرون بها جيرانهم ويطرحونها في السوق بكل ثقة.
رحم الله الليرة يقول اللبنانيون وهم يستقبلون ارتفاع الدولار بأسى و«لا مبالاة» بدأت تتحول إلى نوع من العبث الاقتصادي سببه العجز الكلي عن مواجهة الانهيار الاقتصادي المتتابع.
في إحدى التظاهرات المناوئة لسياسة الدولة الاقتصادية أحرق المتظاهرون الدولار الأميركي فيما كانت مجموعات أخرى تلوح بالليرات اللبنانية وسط الصراخ والنحيب تعبيراً عن تشييع العملة اللبنانية إلى مثواها الأخير!